(قبس 63 ) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ – عاقبة الظلم
بسم الله الرحمن الرحيم
(وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)([1])
[إبراهيم : 42]
عاقبة الظلم
الوصية الأخيرة تختزل ما يريده الموصي:
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين..
في ذكرى الإمام السجاد (عليه السلام) التي تقترن مع ذكرى أبيه الحسين (عليه السلام) نستفيد درساً من حياتهما المباركة، روى الإمام الباقر (عليه السلام) قال لما حضر علي بن الحسين (عليه السلام) الوفاة ضمّني إلى صدره ثم قال (يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة وبما ذكر أن أباه أوصاه به قال: يا بنيّ إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلاّ الله)([2]) وقد روي الحديث عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، فعن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) قال (يقول الله عز وجل: اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد ناصراً غيري)([3])، أي ظلم من لا يمتلك القوّة والنفوذ لاسترداد حقّه إمّا لضعفه كالمرأة واليتيم والمستضعف أو لغيبته وعدم علمـه أو لترفعـه عــن ردّ الإساءة بمثلها.
وتكتسب هذه الوصية أهمية كبيرة من جهة كونها الوصية الأخيرة في الحياة وعادة ما تتضمن مثل هذه الوصية أهم ما يريد أن يقوله الموصي، ومن جهة تواتر الوصية بها من معصوم الى معصوم (عليهم السلام) , وهم أبعد ما يكونون عن الظلم مطلقاً ,وهو ما دلت عليه الآية الشريفة (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة/124) فبلوغهم مقام الإمامة يعني انهم منزهون عن الظلم، وإنما أريد من التأكيد على هذه الوصية ترسيخها في ذهن الأمة حتى تصبح لهم شعاراً في حياتهم.
تجنب الظلم الأخلاقي: من أخلاق أهل البيت ^:
وكانوا (صلوات الله عليهم أجمعين) ينزهون أنفسهم عن الظلم بكل أشكاله ومستوياته حتى إذا لم يصل الى مستوى المخالفة الشرعية لكنه لا يليق بأخلاقهم العظيمة , روى الإمام الباقر (عليه السلام) عن أبيه السجاد (عليه السلام) قوله (إني حججتُ على ناقتي هذه عشرين حجة لم أقرعها بسوط)([4]).
هذا هو ديدن الأئمة في الترفع عن الظلم مهما كان ضئيلاً وفي أي مستوى من مستوياته، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) (والله لأَن أبيتَ على حسكَ السعدان مسهّداً، أو أُجرَّ في الأغلال مصفّدا أحبُّ إليَّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلمُ أحداً لنفس يُسرِعُ إلى البلى قُفوُلُها، ويطول في الثرى حُلولُها)([5]) وذكر (عليه السلام) حادثته مع أخيه عقيل عندما أحمى له حديدة، ثم قال (عليه السلام) (والله لو أعطيتُ الأقاليمَ السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملةٍ أسلبها جُلبَ شعيرة ما فعلته)([6]).
وكان الإمام السجاد (عليه السلام) يترفع عن الانتقام ومقابلة من ظلمه بالمثل لأنه يرى المقابلة بالمثل ومعاقبة المسيء سيئة وان الأليق بخصاله الكريمة العفو والصفح والإحسان إلى المسيء، تأدباً بقوله تعالى (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ) (المؤمنون/96) وقوله تعالى (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت/34) وقوله تعالى (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النور/22) فالذي يرجو عفو الله تعالى وإحسانه وفضله وكرمه لابد أن يتعامل مع الناس على هذا الأساس.
روي: إن مولى لعلي بن الحسين ع يتولى عمارة ضيعة له، فجاء ليطلعها فأصاب فيها فسادا وتضييعا كثيرا غاضه من ذلك ما رآه وغمه، فقرع المولى بسوط كان في يده، وندم على ذلك، فلما انصرف إلى منزله أرسل في طلب المولى، فأتاه فوجده كاشفاً عن ظهره والسوط بين يديه، فظن أنه يريد عقوبته , فاشتد خوفه.
فأخذ علي بن الحسين السوط ومد يده إليه وقال: يا هذا قد كان مني إليك ما لم يتقدم مني مثله، وكانت هفوة وزلة فدونك السوط واقتص مني.
فقال: يا مولاي، و الله لقد ظننت أنك تريد عقوبتي، و أنا مستحق للعقوبة، فكيف أقتص منك؟!
قال: (ويحك اقتص).
فقال: معاذ الله، أنت في حل و سعة، فكرر ذلك عليه مرارا، والمولى كل ذلك يتعاظم قوله ويجلله، فلما لم يره يقتص، فقال (عليه السلام) له: أما إذا أبيت فالضيعة صدقة عليك، وأعطاه إياها)([7]).
وفي رواية الطبقات الكبرى لابن سعد، ان عبد الله بن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: لما عزل الوليد بن عبد الملك هشام بن إسماعيل عن ولاية المدينة وأوقفه الوليد إلى الناس ليقتصوا منه، وكان يسيء إلى أبي، جمعنا أبي علي بن الحسين وقال: إن هذا الرجل قد عزل وقد أوقفه الوليد للناس فلا يتعرض له أحد بسوء، فقلت يا أبت، والله إن أثره عندنا لسيء وما كنا نطلب إلا مثل هذا اليوم. قال: يا بني نكله إلى الله، فوالله ما تعرض أحد بسوء من آل الحسين حتى تصرم أمره)([8]).
وروي في ذلك عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قوله (أوحى الله إلى نبي من أنبيائه .. إذا ظُلمتَ بمظلمةٍ فارض بانتصاري لك فـإن انتصـاري لــك خيــر مــن انتصــارك لنفسك)([9]).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (لا يكبرّن عليك ظلم من ظلمك فانه يسعى في مضرّته ونفعك وليس جزاء من سرَّك أن تسوءَه) .
التغاضي هو بلحاظ المظالم الشخصية لا الحقوق العامة:
ولابد أن نلتفت إلى أن هذا التغاضي وعدم الرد فيما يتعلق بالمظالم الشخصية، أما إذا كان الظلم يتعلق بالحقوق العامة خصوصاً إذا انتهكت محارم الله تعالى فالنهي عنه واجب والسكوت قبيح ، روى في كنز العمال عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) منتصراً من ظلامة ظلمها قطّ إلا أن يُنتهك من محارم الله شيء، فإذا انتُهك من محارم الله شيء كان أشدَّهم في ذلك)([10]).
في ذم الظلم:
والأحاديث الواردة في ذم الظلم والتحذير منه كثيرة فعن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) قال (إياكم والظلم، فإن الظلم عند الله هو الظلمات يوم القيامة) وعنه (صلى الله عليه واله وسلم) قال(لا تظلم أحداً، تُحشر يوم القيامة في النور)([11])، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) (الظلم في الدنيا بوار وفي الآخرة دمار)، وعنه (عليه السلام) قال (من ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده) وعنه (عليه السلام) (بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد) وعنه (عليه السلام) (إياك والظلم فإنه أكبر المعاصي)، وعنه (عليه السلام) قال (ألا وإنّ الظلمَ ثلاثةٌ: فَظلمٌ لا يُغفرُ، وظُلمٌ لا يُتركُ، وظُلمٌ مغفورٌ لا يُطلَبُ، فأمّا الظُّلمُ الذي لا يُغفرُ فالشِّركُ بالله… وأمّا الظُلمُ الذي يُغفرُ فَظلمُ العبدِ نفسهُ عندَ بعضِ الهّناتِ، وأمّا الظُلمُ الذي لا يُتركُ فظلمُ العِبادِ بَعضِهِم بعضاً)([12]).
عاقبة الظلم:
وروي عن النبي في بيان عاقبة الظالم قال: (إنّه ليأتي العبدُ يومَ القيامةِ وقد سرّته حسناتُهُ ، فيجيء الرجلُ فيقول : يا ربّ ظلمني هذا ، فيؤخذ من حسناتِهِ فيجعل في حسناتِ الذي سأله ، فما يزال كذلك حتّى ما يبقى له حسنةٌ ، فإذا جاء من يسأله نظر إلى سيئاته فجعلت مع سيئات الرجل ، فلا يزال يستوفى منه حتى يدخل النار)([13]). وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (من ظلم قُصِم عمره) ,وقال (عليه السلام) (بالظلم تزول النعم).
مديات الظلم:
ويتضح من الروايات التي ذكرنا جملة منها إن مديات الظلم واسعة لا ينجو منها أحد الاّ من عصم الله تبارك وتعالى ,لان الظلم هو عدم الوفاء بتمام الحق ,وأول حق لا نستطيع الوفاء به ونقصّر فيه حق الله تعالى في طاعته وعبادته مخلصين له الدين (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان/13).
ومن الظلم ظلم النفس باتّباع هواها وعدم مسك زمامها فتوقعه في المعاصي وتتمرد على الطاعات وهو مفتاح الظلم للآخرين ,عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (من ظلم نفسه كان لغيره أظلم) فيقع في ظلم الأهل وعموم الناس سواء في تعامله معهم أو خلال تقصيره في المسؤوليات المناطة به كالطبيب الذي لا يلتزم بشرف مهنته في المستشفى ليراجعوه في العيادة الخاصة، أو المدرِّس الذي يقصّر في المدرسة حتى يلتحقوا بدروسه الخصوصية والموظف الذي لا يعمل بمهنية ونزاهة، والأم التي تقصّر في تربية أولادها وحفظ بيتها وشرف زوجها، أو السياسي في الحكومة والبرلمان الذي لا يبذل كل جهده في خدمة الشعب الذي ائتمنه على هذه المواقع والأمثلة تطول , فهذا كله ظلم.
حتى إن الظلم يمكن أن يقع في أمور بسيطة لا نتصورها كالتحكيم بين كتابتين أو رسمين أيهما أجمل إذا لم يكن منصفاً في حكمه كما ورد في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) (إن أمير المؤمنين (عليه السلم) ألقى صبيان الكتّاب ألواحهم بين يديه ليُخيِّر بينهم، فقال: أما إنها حكومة والجور فيها كالجور في الحكم)([14]).
سبيل التخلص من الظلم:
ولا سبيل إلى التخلّص منها جميعاً إلاّ بالطلب من الله تعالى أن يرضي الخصماء عنه ويتولى ذلك بنفسه لأنه ولي الخلق جميعاً، ورد عنه (عليه السلام) في دعاء يوم الاثنين (وَأَسْأَلُكَ فى مَظالِمِ عِبادِكَ عِنْدي، فَاَيَّما عَبْد مِنْ عَبيدِكَ اَوْ اَمَة مِنْ اِمائِكَ كانَتْ لَهُ قِبَلي مَظْلِمَةٌ ظَلَمْتُها اِيّاهُ، في نَفْسِهِ اَوْ في عِرْضِهِ اَوْ في مالِهِ، اَوْ في اَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، اَوْ غيبَةٌ اغْتَبْتُهُ بِها، اَوْ تَحامُلٌ عَلَيْهِ بِمَيْلٍ اَوْ هَوىً، اَوْ اَنَفَة اَوْ حَمِيَّة اَوْ رِياء اَوْ عَصَبِيَّة. غائِباً كانَ اَوْ شاهِداً، وَحَيّاً كانَ اَوْ مَيِّتاً، فَقَصُرَتْ يَدى وَضاقَ وُسْعى عَنْ رَدِّها اِلَيْهِ وَاْلتَحَلُّلِ مِنْهُ، فَأَسْأَلُكَ يا مَنْ يَمْلِكُ الْحاجاتِ، وَهِىَ مُسْتَجيبَةٌ لِمَشِيَّتِهِ وَمُسْرِعَةٌ اِلى اِرادَتِهِ اَنْ تُصَلِيَّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَاَنْ تُرْضِيَهُ عَنّي بِما شِئْتْ، وَتَهَبَ لي مِنْ عِنْدِكَ رَحْمَةً، اِنَّهُ لا تَنْقُصُكَ الْمَغْفِرَةُ وَلا تَضُرُّكَ الْمَوْهِبَةُ، يا اَرْحَمَ الرّاحِمينَ).([15])
ومن دعا ء له (عليه السلام)(اللهم اني اعتذر اليك من مظلومٍ ظلم بحضرتي فلم أنصره)([16]) .
ومن دعائه (عليه السلام)( اللهم فكما كرهت إلي أن أظلم، فقني من أن أظلم)([17])
([1] ) كلمة ألقاها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في ذكرى استشهاد الإمام السجاد (ع) يوم 25 محرم 1435 المصادف 29/11/2013.
([2] ) الكافي: 2/331 ح5.
([3] ) ميزان الحكمة: 5/304 عن عدة مصادر.
([4] ) المحاسن للبرقي: 2/635.
(5) الى (6) نهج البلاغة: الخطبة 221. بيان: الحسك: الشوك، والسعدان نبت ترعاه الإبل له شوك، والمسهَّد: السهران، والمصفّد: المقيَّد، والقفول: الرجوع، وجِلب الشعيرة: غطاؤها.
([7] ) بحار الأنوار: ج46 ص99.
([8] ) موسوعة المصطفى العترة 7/64 عن عدة مصادر ذكرها.
([9] ) بحار الأنوار: 75/321 ح50.
([10] ) ميزان الحكمة: 5/308 عن كنز العمال: 18716.
([11] ) هذه المجموعة من الروايات وغيرها في ميزان الحكمة: 7/299 وما بعدها.
([12] ) ميزان الحكمة ج7 ص303.
([13] ) ميزان الحكمة ج7 ص299.
([14] ) وسائل الشيعة، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب بقية الحدود، باب8 ح2.
([15] ) الصحيفة السجادية/ دعاء يوم الاثنين.
([16] ) الصحيفة السجادية/ الدعاء38 .
([17]) الصحيفة السجادية/ دعاؤه (A) (إذا اعتدي عليه أو رأى من الظالمين ما لا يحب) ص 95.