(قبس 26 )إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ
بسم الله الرحمن الرحيم
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)([1])
[الأعراف: 201]مواعظ ودروس:
يمكن فهم الآية من خلال استخلاص عدد من المواعظ والدروس التربوية منها:
- 1- إن الإنسان مهما ارتقت درجته في العبادة والطاعة معرض للزلل بغواية الشيطان التي تبتدئ بأفكار ووساوس وقناعات ورغبات يلقيها الشيطان في قلب الانسان وعقله سمّتها الآية بطائف الشيطان فالآية وصفتهم ببلوغ درجة المتقين والشيطان لم يتركهم، ولا ينجو من مكائد الشيطان الا المعصومون (سلام الله عليهم)، وهذا ما توعد به ابليس منذ خلق البشر (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (ص82-83) فكلنا بجميع درجاتنا وعلى اختلاف أحوالنا وأعمارنا شباباً وشيباً رجالا ونساءاً معرضون لهذا الابتلاء وإلقاء الوساوس وطواف الشيطان على القلب والعقل، لكن قد تختلف هذه الوساوس والاثارات بين البشر فالشباب لهم بلاءهم ورغباتهم وإثاراتهم والحوزة لها اختبارها والأثرياء والفقراء لكل منهم امتحانهم والذي في الغرب والذي في البيئة المسلمة واساتذة الجامعات والسياسيون وهكذا كل فرد يحس بهذا الضغط والتزيين باتجاه ما يحاول الشيطان أن ينفذ من خلاله، فعلى الجميع الحذر والمراقبة والوعي والتفقّه حتى يغلقوا على الشيطان منافذه.
- 2- إن الدرع الحصينة التي يلتجئ اليها الإنسان للوقاية من كيد الشيطان وإغرائه هي التقوى لأن الآية ذكرت أن المتقين هم الذين لا يفلح الشيطان في استغفالهم وأنهم سرعان ما يتذكرون إذا حام الشيطان حول قلوبهم، وتعود اليهم بصيرتهم فوراً عند تذكرهم، وقد يكون المتقي متذكراً يقظاً دائماً فلا يكون للشيطان عليه سبيلاً، وقد قالوا في علمي الفقه والاصول أن تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية أي أن حصول التذكر وعودة البصيرة واليقظة والمراقبة متعلق ومرتبط بوجود ملكة التقوى، فحالة التذكر معلولة لوجود ملكة التقوى عند العبد فكلما كان اكثر تقوى كان اكثر تذكراً لان وجود مَلَكَة التقوى سبب للانتباه من الغفلة رزقاً خالصا من الله تبارك وتعالى وجزاءً لتقواه (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً) (الطلاق-2) والرزق يشمل المعنويات بالتأكيد، فاذا تذكر الانسان واستبصر خنس الشيطان وخسئ، واذا غفل الانسان عاد الشيطان الى وسوسته وتزيينه فوُصِفَ بـ (الوسواس الخنّاس) فالشياطين كالفيروسات والجراثيم الملوثة للبيئة والموجودة حول كل إنسان لكنها لا تصيب الا من كانت مناعته ومقاومته التي هي التقوى ضعيفة ولو بدرجة من الدرجات.
- 3- إن طريقة عمل الشيطان بأن يطوف ويدور حول قلب الإنسان وعقله ويوسوس له ويحاول تزيين المعصية ليحرّك شهواته وغرائزه باتجاهها، ويحاول اغراءه بها، قال تعالى (شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ ) (الأنعام-112) عن أمير المؤمنين × قال : (الشيطان موكّل به – أي العبد- يزيّن له المعصية ليركبها ويمنّيه التوبة ليسوّفها)([2]) هاتان العمليتان قبل فعل الانسان وبعده هما كل سلطة الشيطان على الناس، فالاعتقادات السائدة لدى الجهلة والعوام بتلبس الجن وأمثالها وبالشكل الذي يصورونه تافهة وباطلة، وأن الله تعالى كرّم الإنسان وفضّله على خلقه فلا يجعل لغيره سبيلاً عليه بهذا النحو وغيره، فالشيطان لا يملك هيمنة على الإنسان أكثر من ذلك والإنسان هو الذي يختار سلوكه وطريقته في الحياة بإرادته (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ) (الإنسان3) لذا يرد الشيطان على الإنسان يوم القيامة بما حكاه الله تعالى عنه (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم ) (إبراهيم22) وقال تعالى (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُــلِّ شَــيْءٍ
حَفِيظٌ) (سبأ21).
ومن الواضح أن سلاح الشيطان هو استغفال الإنسان وغلق منافذ التفكير والوعي والحكمة ووضع الحُجُب دون بصيرته وقدرته على التمييز بين الحق وبين الباطل لذا كان العلاج وسلاح الرد عليه هو التذكر والانتباه والفطنة والحذر وإزالة الحُجُبِ والأغلال والمراقبة المستمرة (تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)(الأعراف 201) كالسارق فانه لا يستطيع سرقة الإنسان المنتبه المتحذّر وإنما يسرق الغافل الساهي والشيطان يريد سرقة دين الإنسان واستقامته.
وينبغي الالتفات الى أن فسح المجال للشيطان لكي يطوف ويحوم حول القلب والاسترسال مع وسوسته والافكار التي يُلقيها وعدم قطع الطريق عليه نقص في كمال الإنسان وإن لم يفعل المعصية ففي الآية الكريمة (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) (المجادلة/10) وفي الحديث (لولا أن الشياطين يحوّمون على قلب ابن ادم لنظروا إلى الملكوت)([3])، فعلى كل فرد أن لا يستصغر شأن بعض الأفكار غير الرحمانية التي تراوده كالتعلّق بالجنس الآخر أو الاعتداء على المال العام أو الكيد لشخص يحسده والانتقاص منه وتسقيطه ونحو ذلك، وعليه أن يقطعها ويستغفر منها (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (الحجرات/12) والا كانت بدايـة للسقــوط فــي
الخطأ والخطيئة والعياذ بالله.
- 4- لم تذكر الآية متعلق التذكّر أي ماذا يتَذَكَّرون والتذكر هو التفطن لأمور مغفول عنها سابقاً وتساعده في الوصول الى النتيجة فقالت (تَذَكَّرُوا) وأطلقت ولعله ليشمل كل ما يعينك على هذه المواجهة ولكن الآية التي سبقتها نبّهت الى ما يجب تذكره واستحضاره والتسلح به، قال تعالى (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأعراف200) فالآية محل البحث تبّين وسيلة الوصول الى العلاج الذي ذكرته الآية السابقة عليها. وأكدّته اية لاحقة (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ) (الأعراف-205).
ونستطيع أن نعرف تفصيل الامـور التـي يتذكرهـا ليكـون مبصـراً مــن سورة يوسف فقد تعرّض × لموقف رهيب فماذا كان سلاحه في تلك المواجهة؟ وماذا كان برهان ربه الذي لولاه لهَمََّ بها؟ (قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (يوسف23) إنها عناصر ثلاث.
فيستحضر الله تعالى أولاً ويستعيذ به ويطلب منه العصمة والمعونة وهذا ما ذكرته الآية السابقة هنا.
ويتذكر ثانياًُ أن له رباً هو الله تبارك وتعالى يملك أمره ويتولى تربيته ويكفيه المؤونة ويرزقه من حيث لا يحتسب وهو الذي ينصره ويثبت قدمه عند المزالق ويفرج عنه وأنه قد أغدق عليه النعم الكثيرة فعليه أن يلتزم بمنهج ربه ولا يفارقه شكراً لنعمائه وليس مقابلة النعمة بالعصيان (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ) (الرحمن/60).
ويتذكر ثالثاً العاقبة السيئة لمن يتبع الشيطان ويظلم نفسه بفعل المعصية (إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (يوسف23).
عن الإمام الصادق × في معنى ذكر الله على كل حال قال: (يذكر الله عند المعصية يهم بها فيحول ذكر الله بينه وبين تلك المعصية، وهو قول الله عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)([4]).
ولنضـرب مثـالاً مـن واقعنــا المعـاش وهــي الظاهـرة التـي غــزت شبابنــا والهوس الذي اصاب كثيرين منهم هذه الأيام لدفعهم باتجاه التغرّب أو التعرّب بعد الهجرة سعياً وراء ما يسمونه بتحسين وضعهم المعاشي والحياة المادية المترفة، هذا القرار غير الحكيم يبتدئ من طائف شياطين الإنس والجن الذين يصوّرون للشاب هذه الرحلة وكأنها الى الفردوس المنتظر وييسِّرون له أمرها ويرسمون له الأحلام الوردية ويسوّدون صورة واقعه المعاش فهنا إنْ تذكّر أن في هذا الفعل ضياع دينه واسرته والتفريط بأهله واخوانه وبلده ابصر طريقه واتخذ القرار الصحيح بالبقاء ولو كلّفه بعض الصعوبات فإن تحملها في جنب الله سعادة، وإن مضى في غفلته سقط في هذا الفخ الذي نصبه من لا يؤتمنون على العاقبة الحسنة في الدنيا ولا في الاخرة، وقد ابتلع البحر الأبيض مئات الالاف من اللاجئين في هذه السنة والتي سبقتها، هذه الظاهرة مليئة بالغرائب، فإن الدولة التي يتجمع فيها الإرهابيون من شتى أنحاء العالم لينتقلوا منها الى سوريا والعراق، هي نفسها التي امتلأت بشبكات التهريب لتنقل الفارّين من جحيم الإرهاب الى اوربا.
والدول الاوربية التي ترفض إعطاء الإقامة لمن قصدها باحترام عن الطريق الرسمي والسفر بسمة الدخول ترحب بهم كلاجئين عبـر طـرق المــوت والمعانـاة وابتزاز المهرّبين، إنها مفارقة حمقاء.
- 5- يمكن فهم هذه الآية تربوياً وعملياً باتجاهين متعاكسين (احدهما) أن من يكون متقياً يحظى بلطف من الله تعالى بالتذكر عندما يحوم الشيطان حول قلبه فتنفتح بصيرته ويرى الحق فينجو من مكائد ابليس (ثانيهما) أن من أراد أن يكون من المتقين فعليه أن يكون متذكراً يقضاً مراقباً لينجيه الله تعالى من اغواء الشيطان وبذلك تحصل عنده ملكة التقوى. وهذان الاتجاهان متلازمان وكل منهما يؤدي الى الاخر أي أن كل درجة من أحدهما تؤدي الى أعلى منها من الآخر والعكس كذلك حتى يرتقي في درجات الكمال بإذن الله تعالى.
- 6- إن الإنسان المتقي الصالح محبوب عند الله (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة4) وإتباع الشيطان عمل مبغوض عند الله تعالى، فحينما يقع هؤلاء الذين اتقوا في طائف الشيطان فإن عملهم مبغوض لكنهم محبوبون في ذاتهم.
هذه النتيجة نخرج منها بدرس عملي وهو أنه يجب علينا أن نميّز بين حب وبغض الشخص وحب وبغض عمله فقد نرفض عمل شخص لأنه غير صالح ولا يسري ذلك الى الشخص ذاته بل يبقى محبوباً لأنه متقي صالح فاعل للخير، وهذا معنى الحديث (إن الله قد يحب العبد ويبغض عمله)([5]) وهذا الأدب الرفيع لا يلتزم به الا من ندر، حيث أن السائد في المجتمع أنه يكره الشخص وينبذه ويسقطه ويسحق كرامته لأجل عمل شيء أو موقف خاطئ صدر منه.
([1] ) الخطبة الاولى لصلاة عيد الاضحى المبارك عام 1436 الموافق 24/9/2015.
([2] ) نهج البلاغة: 64.
([3] ) بحار الانوار، المجلسي، ج70 ص59.
([4] ) معاني الاخبار: 20/192.
([5] ) أنظرها في الملحق التالي.