(قبس 5 )وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
بسمه تعالى
(وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)([1])
[الإسراء : 23]الآيات الكريمة والروايات الشريفة الواردة في وجوب بر الوالدين والاحسان اليهما وحرمة عقوقهما كثيرة جدا قال تعالى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء : 23] {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان : 14-15] {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف : 15] {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة : 83] .
اما الروايات فكثيرة جدا نذكر منها:
ما روي عن رسول الله ’ لما سُئل عن حق الوالدين على ولدهما قال ’ باختصار (هما جنتك ونارك) وعنه ’ قال (رضى الله في رضا الوالد وسخط الله في سخط الوالد) وعن امير المؤمنين × قال : (برُّ الوالدين اكبر فريضة)([2]).
هذا معنى واضح ومعروف ولا يحتاج الى بيان وتفصيل وكل الذي علينا هو التنفيذ والالتزام بكل حب ومودة ورحمة وصبر وسعة الصدر.
أبوا هذه الأمّة:
اما ما اريد ان اشير اليه فهو مصداق آخر للوالدين تنطبق عليهما هذه الآيات والروايات بل هي فيهما آكد وأشد، وتبينهُ الرواية التالية، روى الشيخ الصدوق بسنده عن انس ابن مالك قال : (كنت عند علي بن أبي طالب × في الشهر الذي أصيب فيه وهو شهر رمضان فدعا ابنه الحسن × ثم قال: يا أبا محمد اعل المنبر فاحمد الله كثيرا، وأثن عليه، واذكر جدك رسول الله ’ بأحسن الذكر، وقل: لعن الله ولدا عق أبويه، لعن الله ولدا عق أبويه، لعن الله ولدا عق أبويه، لعن الله عبدا أبق من مواليه، لعن الله غنما ضلت عن الراعي([3]) وانزل. فلما فرغ من خطبته ونزل اجتمع الناس إليه فقالوا: يا ابن أمير المؤمنين وابن بنت رسول الله نبئنا [الجواب] فقال: الجواب على أمير المؤمنين ×، فقال أمير المؤمنين: إني كنت مع النبي ’ في صلاة صلاها فضرب بيده اليمنى إلى يدي اليمنى فاجتذبها فضمها إلى صدره ضما شديدا ثم قال لي: يا علي، قلت: لبيك يا رسول الله ’، قال: أنا وأنت أبوا هذه الأمة، فلعن الله من عقنا، قل: آمين، قلت: آمين. ثم قال: أنا و أنت موليا هذه الأمة فلعن الله من أبق عنا، قل: آمين، قلت: آمين، ثم قال: أنا وأنت راعيا هذه الأمة فلعن الله من ضل عنا، قل: آمين، قال أمير المؤمنين ×: وسمعت قائلين يقولان معي: ” آمين ” فقلت: يا رسول الله ومن القائلان معي ” آمين “؟ قال: جبرئيل وميكائيل ‘)([4]).
وورد في تفسير فرات بن ابراهيم بسنده عن الامام الباقر × في تفسير قوله تعالى { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان : 14] قال ( رسول الله ’ وعلي ابن ابي طالب ×) .
وفي تفسير القمي في قوله تعالى (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) قال: (فالوالدان رسول الله ’ وامير المؤمنين ×)، وورد عن جابر عن الامام الباقر × في تفسير قوله تعالى {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد : 3] انه امير المؤمنين ×، وما ولد من الائمة ^ وورد في تفسير قوله تعالى {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ } [الأحقاف : 15]) هما رسول الله وعلي ابن ابي طالب (صلوات الله عليهما).
ويشرح في تفسير العسكري معنى ابوتهما (صلوات الله عليهما) قال (ولقد قال الله تعالى (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) قال رسول الله ’ افضل والديكم واحقهما بشكركم محمد وعلي، وقال علي ابن ابي طالب × سمعت رسول الله ’ يقول انا وعلي بن ابي طالب ابوا هذه الامة، ولحقُّنا عليهم اعظم من حق والديهم فانا ننقذهـم ان اطاعونـا مـن النـار الـــى دار القـرار ونلحقهـم مـن العبوديـة بخيـار
الأحرار)([5]).
في معنى الأب:
قال الراغب في المفردات (الاب) : الوالد ويُسّمى كل من كان سببا في ايجاد شيء او صلاحه او ظهوره اباً ولذلك يسمى النبي ’ ابا المؤمنين، قال الله تعالى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب : 6] روي انه ’ قال لعلي (انا وانت ابوا هذه الامة)([6]).
حياتان ووجودان:
فالإنسان له حياتان ووجودان: الاولى: حياة و وجود بدني مادي في هذه الحياة الدنيا به يأكل ويشرب ويتحرك ويتزوج مما يشارك فيه الحيوانات وينتهي بالموت، واصله من الوالدين النسبيين الاب والام مما اوجب لهما الحقوق المعروفة للوالدين.
الثانية: حياة ووجود معنوي به يتكامل ويسمو ويرتقي وهو الموجب للفوز في الحياة الابدية وقوامه الايمان بالله تعالى وبما جاءت به رسُلُه، وهذه هي الحياة الحقيقة للانسان {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت : 64]، وقد وصف الله تعالى في آيات كثيرة من القران الكريم الايمان بالحياة والكفر بالموت {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ } [آل عمران : 169] وضرب امثلة عديدة للمؤمن والكافر بالأرض الميتة فأحييناها بماء الايمان والمعارف الالهية.
الابوة المعنوية:
والنبي ’ وامير المؤمنين علي × هما اصل هذه الحياة المعنوية ووجودنا فيها ولولاهما لكنّا امواتاً { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف : 43] فهما ابوا هذه الامة في حياتها المعنوية ولانها الحياة الاهم والاسمى كان حقهما (صلوات الله عليهما) اكبر من الوالدين النسبيين.
ولعل مما يدل عليه من القران الكريم لرفع الاستغراب قوله تعالى {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } [الزخرف : 22] فقد حُمِل على العلماء (اي علماءنا الذين ربونا بالعلم بدلالة قوله تعالى { إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب: 67] وقيل في قوله تعالى (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) انه عنى الاب الذي ولده والمعلم الذي علمه)([7]).
بل يمكن القول انهما ابوا هذه الامة حتى بالمعنى الاول، لانهما العلة الغائيــة للموجـودات خلـق الكـون لأجلهـم وبهــم يـرزقون وبهـم تستمـر الحيــاة
((ولولاهم لساخت الارض باهلها)) وبهم يسبب الله الاسباب.
لنكن أبناء بارّين:
والى الان نكون قد عرفنا جانبا من الحديث الذي له اتجاهان لان الابوّة من المعاني المتضايفة كما يعبر اهل المنطق والاصول اي النسبية ذات الاتجاهين، فلا تتحقق الابوّة الا بالبنوّة، لذا علينا ان نلتفت الى هذا التشريف العظيم الذي منَّ الله تعالى به علينا اذ جعلنا ابناءاً لرسول الله ’ وعلي بن ابي طالب × الذي يعرف قيمته مثل الامام الصادق × حين يقول (ولايتي لعلي بن أبي طالب × أحب إلي من ولادتي منه، لأن ولايتي لعلي بن أبي طالب فرض، وولادتي منه فضل)([8]).
لنقرأ الآيات برؤية جديدة:
وحينئذٍ نقرأ الآيات الكريمة بهذه الرؤية الجديدة (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ )وتقدم ان حقهما (صلوات الله عليهما ) اعظم من حق الوالدين الذي عرفنا عظمته، عن الامام الحسن السبط × قال ( محمد وعلي ابوا هذه الامة فطوبى لمن كان بحقهما عارفا ولهما في كل احواله مطيعا يجعله الله من افضل سكان جنانه ويسعده بكراماته ورضوانه) وعن الامام الحسين × قال (مـن عـرف حـق ابويــه
الافضلين محمد وعلي ‘ واطاعهما حق الطاعة قيل لــه تبحبـح فـي اي الجنــان
شئت)([9]).
في خصائص البنوة:
وعلينا ان نكون ابناءا بارين مطيعين، نقل في المناقب عن القاضي ابي بكر احمد ابن كامل قوله (يعني ان حق علي على كل مسلم ان لا يعصيه ابدا)([10]).
واذا لم تتحقق شروط البنوة فان النبي ’ وامير المؤمنين × يتبرءان منه وينفيان انتسابه اليهما، وتصور العار الذي يلحق من يتبرأ منه ابواه وينفيان نسبته اليهما، عن الامام الرضا × قال: (اما يكره احدكم ان ينفى عن ابيه وامه الذين ولداه قالوا بلى، قال فليجتهد ان لا ينفى عن ابيه وامه الذين هما ابواه افضل من ابوي نفسه)([11]).
حُكي ان ذئباً نزى على انثى غزال فحملت منه وولدت مولودا اختلف فيه هل هو ذئب ام غزال ليُطبَّق الحكم الشرعي على كل منهما، وتقول الحكاية ان القاضي حكم بان يقدم امامه نوعان من الطعام احدهما من الرياحين والمسك والاخر من الجيف ولحوم الميتة، فان تناول الاول فهو غزال وان تناول الثاني فهـو
ذئب([12]).
ومحل الشاهد ان بنوّة الانسان لأحد تعرف من خلال المنهج الذي يسير عليه ويرتضيه لنفسه فان كان صالحا كان ابنا لرسول الله وامير المؤمنين (صلوت الله عليهما) وان كان فاسدا منحرفا فهو ابن لمعاوية ويزيد ونظرائهما.
في الحديث الشريف عن الامام الصادق × قال : (فإن الرجل منكم اذا ورع في دينه وصدق الحديث وادّى الأمانة وحسُن خلقه مع الناس قيل هذا جعفري، فيسرُّني ذلك ويدخل عليَّ منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر ، واذا كان على غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعاره، وقيل هذا أدب جعفر)([13]).
فالإمام الصادق × ينسبك فعلاً اليه والى ابائه الطاهرين ^ وتحمل لقبه اذا تحليت بهذه الصفات.
وفي القرآن الكريم قول ابراهيم × {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم : 36] فمن سار على نهجه × واتبعه كان منه وليس فقط ينتسب اليه وبهذا استحق سلمان الفارسي هذا اللقب في الحديث النبوي المشهور (سلمان منا اهل البيت)([14]) وبالعكس فان الانتساب البدني لا قيمة له اذا لم يكن مقترناً بالطاعة والاتباع، كما حكى القرآن الكريم في ابن النبـي نــوح × {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ
إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [هود : 46].
نسأل الله تعالى ان يجعلنا اهلاً للتشرف بالبنّوة لرسول الله ’ وامير المؤمنين × وأن نؤدي حقوق هذا الانتساب بفضله وكرمه.
([1] ) كلمة سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد كبير من الشباب وطلبة الجامعات الذين جرت العادة باستضافتهم في العشر الاواخر من شهر رمضان الى جوار امير المؤمنين × وتنظيم برنامج عبادي اخلاقي لهم، والتقاهم سماحته يوم الخميس 26-رمضان-1435 الموافق 24-7-2014
([2] ) راجع هذه الروايات وكثير غيرها في ميزان الحكمة . 9/567.
([3] ) في رواية اخرى ان الفقرة الثالثة (لعن الله من ظلم أجيره ) وذكر ’ في معناها (الا واني وانت اجيرا هذه الامة فمن ظلمنا أجرتنا فلعنة الله عليه).
([4] ) معاني الأخبار – الشيخ الصدوق: 118/ح1.
([5] ) هذه الروايات في بحار الانوار : 36/6-9 في باب عنوان (ان الوالدين رسول الله وامير المؤمنين (صلوات الله عليهما) وتوجد روايات اخرى في باب بعنوان ( تأويل الوالدين والولد والارحام وذوي القربى بهم ^) في بحار الانوار :23/257.
([6] ) المفردات للراغب، مادة (اب).
([7] ) المفردات للراغب، مادة (اب).
([8] ) البحار: ج 39: ص 299.
([9] ) بحار الانوار : 36/10 عن تفسير العسكري :330.
([10] ) بحار الانوار 36/11 عن مناقب آل ابي طالب : 3/126.
([11] ) بحار الانوار : 36/10 عن تفسير العسكري :330.
([12] ) (غضوا ابصاركم ترون العجائب) : 89 عن كتاب سلسلة اصول الدين للمرحوم دستغيب: 2/109.
([13] ) وسائل الشيعة : كتاب الحج، ابواب احكام العشرة، باب 1 ح2.
([14] ) رواه الحاكم في المستدرك (3/598) ، والطبراني (6/261).