القراءة وآدابها وأحكامها
القراءة وآدابها وأحكامها
قال سبحانه: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾(1).
وقال سبحانه: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾(2).
وقال سبحانه: ﴿فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾(3).
1– النحل: 98.
وخطاب الاية الكريمة متوجه التى النبي صلى الله عليه وآله، فتكون الاستعاذة المأمور بها فرضا عليه وسنة لأمته صلى الله عليه وآله بالاقتداء والتأسى، لكونها سنة في فريضة: الأخذ بها هدى وتركها ضلالة وكل ضلالة سبيلها إلى النار (بحار الأنوار، ج 82 ص1).
2– المزمل: 4.
والاية توجب ترتيل القرآن بمعنى قراءته مرتلا منسقا سورة بعد سورة حتى يأتى على آخرها، قال عزوجل: يا ايها المزمل قم الليل الا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا) فأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أولا بتهجد الليل ثم بترتيل القرآن، الا أن أمره بقيام الليل مستقل من أمهات الكتاب، وأمره بالترتيل غير مستقل من المتشابهات بها، فأوله رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الصلاة بعد تكبيرة الاحرام قبل الركوع، فتكون سنة في فريضة الاخذ بها هدى وتركها ضلالة، ومن تركها عمدا بطلت صلاته لاعراضه عن سنة الرسول الله صلى الله عليه وآله.
وانما قلنا بقراءته سورة بعد سورة حتى يأتى على آخرها، لاطلاق لفظ القرآن والاطلاق في كلام الحكيم محكم، وأما امكان ذلك في تهجد ليلة، أو صلوات يوم وليلة فلان سورة المزمل من أوائل السور النازلة على النبي صلى الله عليه وآله، وقد قيل بأنها ثالث ثلاثة: نزلت أولا سورة العلق ثم القلم ثم المزمل، وان كان لا يخلو عن بعد بملاحظة مضمون الايات الكريمة..
وأما الترتيل: فهو معنى لا يتعلق الا بالشئ ذى الاجزاء المختلفة والمراد تنسيق تلك الاجزاء وتنضيدها أحسن نضد واتساق، وانتظامها سلكا واحدا يقع كل جزء موقعه الخاص به المناسب له من حيث الترتيب، يقال ثغر مرتل: اذا كان مستوى النبات حسن التنضيد، كلام رتل: حسن التأليف، ترتل في الكلام: ترسل وتأنق في قراءته بتبيين الحروف وأداء الوقوف وحسن تنسيقها، لا يندمج بعضها في بعض.
وأما القرآن الكريم، فلما كان مشتملا على سور متعددة، وكل سورة في طيها آيات وكل آية مركب من جملات، وكل جملة من كلمات، وكل كلمة من حروف، كان ترتيل القرآن بقراءته سورة بعد سورة لا أقل من قراءة سورتين في ركعة، ليتم معنى التنسيق والتنضيد وترتيل السورة بقراءة آياتها مرتبة منسقة من دون تقديم وتأخير بين آياتها المتناسقة وبلا زيادة فيها ونقيصة منها، ومنه الوقف عند تمام الاية الشريفة كما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله لئلا يندمج الاية في الاية (بحار الأنوار، ج 82 ص1).
3– المزمل: ٢٠.
ومن الأهمية بمكان أن ننقل تمام الآية هنا لمسيس الحاجة إليها، مع ما يتعلق بها من الأبحاث: قال عز وجل: (ان ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه) إشارة إلى ما نزل في صدر السورة من أمره صلى الله عليه وآله بقيام الليل في هذه الأوقات المعينة ثلاث مرات متهجدا ثم أمره بترتيل القرآن سورة بعد سورة حتى يأتي على آخرها في تمام تهجده، وهكذا يعلم أنه تقوم (طائفة من الذين معك) رغبة في حسن ثواب الله من المقام المحمود، واقتداء وتأسيا بك رجاء لله وفى اليوم الآخر، لكنه ليس لهم طاقة كطاقتك.
ولا رغبة كرغبتك، ولا هم يحفظون ويتذكرون سور القرآن بتمامها (والله يقدر الليل والنهار) فتارة يقصر الليل ويطول النهار وتارة بالعكس، فلا يسع الوقت لقراءة القرآن بتمام سوره.
وعلى أي حال وعلة (علم أن لن تحصوه) أي لن تحصوا القرآن بقراءة تمام سوره وترتيله سورة سورة، خصوصا في مستقبل أمركم حيث ينزل عليكم سائر القرآن بسوره السبع الطوال والمثاني والمئين والمفصل (فتاب عليكم) وخفف عنكم حيث كتب على نفسه الرحمة من تشريع دين سمحة سهلة(فاقرؤا ما تيسر من القرآن) أي فلا يلزمكم بعدئذ أن ترتلوا القرآن بتمامه سورة بعد سورة، بل اقرؤا ما تيسر لكم من سور القرآن، كلٌ بحسب حاله وفراغه وذكره حتى لا يختل عليكم أمر المعاد والمعاش، والنوم واليقظة.
فالمراد من قوله عز وجل: (ما تيسر من القرآن) بقرينة لفظ اليسر والمقابلة بقوله (علم أن لن تحصوه) هو سورة كاملة يتيسر قراءتها ويكون تذكرها وحفظها وتعلمها وترتيلها سهلا يسيرا، كل على حسب حاله، كما صرح بذلك في قوله عز وجل: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) حيث نزل القرآن سورة سورة وجعل لكل سورة نسقا ونضدا في ترتيب آياتها، فمن كان ذا ذكر قوى يقدر أن يحفظ أمثال سورة البقرة من السبع الطوال، ومن كان على دون ذلك يحفظ أمثال سورة الحجر من المئين ومن كان دون ذلك يحفظ أمثال سورة الرحمن من المفصل، ومن كان يغلب عليه النسيان فلا أقل من أنه يحفظ السور القصار.
وقد كان تنبه لذلك من المتقدمين ابن سيرين حيث قال لرجل: لا تقل سورة خفيفة، ولكن قل سورة ميسرة لان الله يقول: (ولقد يسرنا القرآن للذكر) أخرجه ابن المنذر عنه على ما في الدر المنثور ج ٦ ص ١٣٥.
ثم قال عز وجل: علم أن سيكون منكم مرضى (فيشغله هم الوجع من قراءة القرآن) وآخرون يضربون في الأرض (عند أسفارهم) يبتغون من فضل الله (فليس لهم كثير فراغ) وآخرون يقاتلون في سبيل الله (إشارة إلى ما سيؤول إليه أمر الأمة بالقتال مع المشركين فيخافون أن يفتنهم الذين كفروا) فاقرؤا ما تيسر منه (في هذه الحالات، فإنه لا أقل من قراءة سورة واحدة خفيفة يسيرة كسورة النصر ثلاث آيات، ومن رغب عن قراءة القرآن مطلقا فلا صلاة له على أي حالة كانت.
ولا يذهب عليك أن هذا الحكم كان قبل نزول قوله تعالى في سورة الحجر:
(ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) الآية: ٨٧، وبعد ما نزلت الآية وجعل سورة الفاتحة في قبال القرآن العظيم كأنها في كفة والقرآن العظيم في كفة، اختارها النبي صلى الله عليه وآله بدلا من قراءة قرآن كامل، وجعلها في أول الركعة، وقال: لا صلاة الا بفاتحة الكتاب وخير المصلين على ما خيرهم الله في آية المزمل بقراءة سورة ميسرة بعدها على حسب حالهم حتى أنه يمكنهم أن يجتزئوا من قراءة السورة بقراءة الحمد في حال المرض والسفر، فان الفاتحة أيضا سورة ميسرة، والحمد لله رب العالمين