وصف القرآن بالعربي المبين(1)
هناك بعض الآيات التي تصف القرآن الكريم بأنّه عربي مبين، وحينئذ يطرح التساؤل التالي: إذا كان القرآن عربياً وواضحاً فما هي الحاجة ياترى إلى تفسيره وبيانه؟
الجواب: حينما أدرك المشركون عجزهم أمام القرآن الذي تحدّاهم – وهم سادة البلاغة ورجال الأدب في ذلك الوقت، فكّروا في الخروج من هذا المأزق الذي وقعوا فيه، ولذلك أخذوا بالبحث عن مبدأ ومنشأ القرآن الكريم، ولذلك ذكروا مجموعة من التفسيرات التي هي من وحي خيالهم الباطل حيث قالوا: إنّ محمداً قد أخذ القرآن من غلامين روميّين هما “جبر” و”يسار”(2) ومن غيرهما، ولقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله سبحانه:
﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾(3).
“العجم” في اللغة هو “الإبهام”، و”الأعجمي” هو الإنسان الذي لا يفصح وإن كان عربياً، وبما أنّ العرب يجهلون اللغات الأُخرى غير العربية لذلك أطلقوا على غير العربي لفظ “العجمي”، لأنّه لا يفهم اللغة العربية بصورة صحيحة، أو أنّه لا يستطيع النطق، بصورة جيدة وصحيحة.
فإذا أخذنا بنظر الاعتبار سبب النزول هذا والذي نقله بعض المفسّرين، حينئذ يمكن القول : إنّ الهدف والغاية من هذه الآية هو الرد على هذا التوهم الباطل حيث تبيّن الآية الحقيقة التالية:
كيف يتلقّى الرسول (ص) هذا القرآن الذي هو في قمة الفصاحة والبلاغة، والبيان،والمرونة والسلاسة والعذوبة وبلسان عربي مبين وواضح، من أُناس يجهلون اللغة ولا يعرفون من أسرارها وفنونها شيئاً، لأنّهما روميان؟!! ولو فرضنا انّهما يعرفان اللغة العربية فلا شكّ انّهما ليسا بهذا المستوى من الإدراك البلاغي وهذه القوة من الفصاحة.
وعلى هذا الأساس يكون مفاد الآية بيان انّ القرآن الكريم كلام صحيح وخطاب بليغ منزه عن أدنى خلل أو تحريف، وما كان كذلك لا يمكن أن يكون وليد فكر الغلامين “يسار” و”جبر” أو غيرهما.
ولكن النكتة الجديرة بالالتفات إليها هي انّ كون القرآن بليغاً أو فصيحاً وعارياً من التحريف والخطأ لا يلازم عدم الحاجة إلى توفير بعض المقدّمات للوصول إلى تفسيره، وانّ الحاجة إلى تلك المقدّمات التفسيرية لا تنافي كونه (عربي مبين).
وهانحن نجد في جميع أرجاء العالم أنّهم يدوّنون كتبهم الدراسية والعلمية بأُسلوب سلس وبعبارات واضحة بعيدة عن التعقيد والإبهام. ومع ذلك نجد أنّهم بحاجة في الكثير من الأحيان إلى وجود المعلم والأُستاذ. وبعبارة أوضح: انّ الآية تريد الإشارة إلى نكتة مهمة وهي انّ اللّه سبحانه حينما يصف القرآن بأنّه “عربي مبين” يعني أنّ هذا القرآن وضع مطابقاً للأُسلوب العربي والقواعد العربية المحكمة وليس على طريقة الأعاجم الذي يجهلون اللغة العربية ويرصفون كلمة إلى جنب كلمة أُخرى ظناً منهم انّهم يتكلّمون اللغة العربية، بل أنّ هذا الكتاب موافق لأُسس اللغة العربية وانّه مصون وبعيد من التحريف والخطأ والإغماض والتعقيد في العبارة.
ونختم الحديث هنا بكلام لأمير المؤمنين (ع)، حينما أرسل ابن عباس للاحتجاج على الخوارج ومناظرتهم، فقال له (ع):
“لا تخاصمهم بالقرآن فإنّ القرآن ذو وجوه وحمال، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنّة فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً”(4).
فإنّ هذه الفقرة القيمة توضح وبجلاء انّ بعض آيات القرآن تحتمل عدّة وجوه ومحتملات، ولا يمكن معرفة المراد منها إلاّ بعد أن نطوي مجموعة من المقدّمات ولا يمكن الاكتفاء بالمعرفة ببعض الأُصول الأدبية واللغوية لرفع هذا الإبهام.
وهذا الكلام يرشدنا إلى أنّ جميع آيات الذكر الحكيم ليست من الكلام المحكم والصريح، بل يوجد فيها الكثير من المتشابه الذي يحتاج في بيانه إلى مجموعة من المقدّمات العلمية الأُخرى(5).
1– مقتبس من المباحث القرآنية لآية الله الشيخ السبحاني، الموقع الالكتروني لمؤسسة الامام الصادق (ع).
2– انظر الكشاف:2/ 218.
3– النحل: 103.
4– نهج البلاغة، الخطبة 77.
5– منشور جاويد:3/312ـ 314.