معنى النهي عن وراثة النِّسَاءَ كَرْهًا
المسألة:
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾(1) فكيف يمكن أن يكون الإرث كرهًا..؟!
هل صحيح ما ورد أن الرجل حين يموت قديما كانت النساء تعتبر مثل الارث فيحق لوليه تزوجها!! أم أن كلمة الإرث لها معنى آخر؟
وجزاكم الله خيرا..
الجواب:
ذكر المفسرون للآية المباركة معنيين:
الأول: إنَّ الخطاب في الآية موجَّه لكلِّ مَن كان تحت ولايته أو رعايته امرأة مؤهَّلة للزواج فيمنعها من التزوُّج على غير رضىً منها حرصاً منه على ما بيدها من أموالٍ اكتسبتها أو ورثتها، فهو يمنعها من الزواج حتى يرثها لو ماتت، أو يرثها أبناؤه وذوو قرابته لو مات قبلها، إذ انَّها لو تزوَّجت فإنَّ أموالها لو ماتت سيرثها زوجُها وأبناؤها، فالآية بصدد النهي لهؤلاء الأولياء عن حبس المرأة عن الزواج حرصاً منهم على أنْ يرثوها وأنْ يستحوذوا على أموالها.
فبناء على هذا التفسير يكون المراد من ترثوا النساء كرها هو انْ تستبقوا النساء دون زواج وهنَّ كارهاتٌ لذلك أي كارهاتٌ لمنعهنَّ من الزواج، وليس المراد من الآية هو انَّهن كارهات لأنْ ترثوهن، فالمراد من الفعل ترثوهن هو تستبقوهنَّ عندكم دون زواج، وهذا هو المعبَّر عنه في علم البلاغة بالتضمين، أي تضمين فعلٍ معنى فعلٍ آخر، فالآية قد ضمَّنت فعل “ترثوا” معنى فعلٍ آخر وهو تستبقوا أو تمنعوا، والغرض من الإتيان بالفعل “ترثوا ” بدلاً من تستبقوا أو تمنعوا هو الإشارة إلى الدافع والسبب من منع النساء من الزواج وهو الاستحواذ على ميراثهن.
الثاني: هو انَّ الخطاب في الآية موجَّه للأزواج الذين يسْتبقون نساءهم في عهدتم رغم عدم رغبتهم فيهن ورغم انَّهنَّ كارهاتٌ لهم، فهم يستبقونهنَّ في عهدتهم حتى يرثونهنَّ بعد موتهنَّ، فالآية بصدد نهي هؤلاء الأزواج عن حبس زوجاتهنَّ في عهدتهم إذا كنَّ كارهاتٍ لهم والتعبير عن الحبس بالنهي عن ميراث النساء كرها لغرض الإشارة إلى سبب الحبس وهو الاستحواذ على الميراث.
الثالث: انَّ الآية بصدد الردع عن ظاهرةٍ كانت سائدة في عدد من القبائل العربية قبل الإسلام، وهذه الظاهرة هي انَّ زوجة الميِّت تكون ضمن ما يرثه أولياؤه بعد موته، بمعنى انَّهم يرثون نكاحها بالصداق الذي كان قد جُعل لها من قِبَل زوجها الميِّت، فحين يموت الرجل وله ابنٌ من غير زوجته فإنَّه يضع عليها رداءه فينكحها بنكاح أبيه دون عقدٍ ولا صداق، وإذا لم يكن راغباً في نكاحها فله أنْ يستبقيها عنده ويمنعها عن الزواج حتى تموت وله أنْ يزوِّجها بمَن شاء ويأخذ هو صداقها الذي جعله على زوجها الجديد، ذلك لأنَّه -بنظرهم- هو الوارث لنكاحها، فهو إمَّا أن ينكحها وراثةً بالعقد السابق الذي كان بينها وبين أبيه أو انَّه يُزوِّجها من غيره فيكون له صداقها عوضاً عن الصداق الذي أصدقه إيَّاها أبوه، وهكذا لو كان الوارث للميِّت هو أخوه أو ابنُ عمه، فإنَّ الوارث كما يرثُ مال الميِّت يرث نكاح زوجاته أيضاً.
فمعنى قوله تعالى: ﴿لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾ هو انَّه لا يحلُّ لكم أنْ ترثوا نكاحهن، و﴿كَرْهًا﴾ حال من النساء بمعنى انهنَّ كارهات لعدِّهنَّ أو عدِّ نكاحهن شيئاً من ميراث الميِّت، فكلمة “كرها” ليس قيداً احترازيَّاً بمعنى انَّ النساء لو كنَّ راضيات لحلَّ ذلك بل هو قيدٌ توضيحي بمعنى انَّه ما من امرأةٍ إلا وهي كارهةٌ لعدِّها شيئاً من الميراث، فإنَّ ذلك استنقاص لقدرها وبخسٌ لحقِّها وانسانيَّتها.
والمتعيَّن أو الراجح من المعاني الثلاثة هو المعنى الأخير، فمضافاً إلى انَّه مؤيَّدٌ بما ورد في بعض الروايات (2) فإنَّه المناسب لما هو الظاهر من النهي عن وراثة النساء، فإنَّ المتفاهم العرفي من وراثة الشيء هو أخذه على سبيل الميراث، فحينما يُقال ورثتُ العقار فإنَّ الظاهر عرفاً من هذه الجملة هو انَّه تملَّكه وصار إليه بالميراث، وحينما يُنهى- مثلا -عن وراثة الموقوفات فيُقال لا يحلُّ لكم أنْ ترثوا الموقوفات فإنَّ الظاهر من ذلك هو النهيُ عن تملُّك الموقوفات بالوراثة، وهكذا حين يُقال لا يحلُّ لكم أن ترثوا النساء فإنَّ الظاهر من ذلك هو النهيُ عن أخذهنَّ على سبيل الميراث.
نعم يكون الظاهر من نسبة الوراثة للنساء هو الوراثة لأموالهنَّ بعد الموت لولم تكن الآية مذيَّلة بقوله: “كرها” فإنَّ نسبة الوراثة للعاقل ظاهرةٌ في وراثة أمواله، فحين يُقال ورثتُ زيداً فإنَّ المتفاهم عرفاً من ذلك هو انَّه ورِثَ أمواله، لكنَّ هذا المعنى غير مرادٍ ظاهراً من الآية المباركة، لأنَّ مؤدى ذلك سيكون هو النهي عن وراثة أموال النساء بعد موتهنَّ إذا كنَّ كارهات لأخذ أموالهنَّ بالوراثة، هذا لو اعتبرنا كلمة “كرهاً” قيداً احترازيَّاً، ولو اعتبرناه قيداً توضيحيَّاً فإنَّ معنى الآية -بناءً عليه -هو النهي عن وراثة أموال النساء لأنَّهن يكرهن أن تُورث أموالهنَّ بعد موتهن، وكلا المعنيين غير مرادين قطعاً، إذ انَّ وراثة الميِّت ليست منوطةً برضاه وعدم كراهته كما انَّ الرضا ليس علةً في استحقاق الوارث للميراث، نعم لو كان المراد من الآية هو النهي عن حبس المرأة عن الزواج حتى تموت ليرثها وليُّها- كما في التفسير الأول- أو حبس الزوج لها عنده حتى تموت ليرثها كما في التفسير الثاني-، لو كان المراد من الآية هو أحد هذين التفسيرين لكان المراد من الوراثة للنساء هو الوراثة لأموالهن إلا انَّ هذين التفسيرين لا يتمَّان إلا بناءً على تضمين كلمة الوراثة لمعنى الحبس والاستبقاء كما أوضحنا ذلك وهو خلاف الأصل ولا يُصار إليه إلا مع قيام القرينة، ولذلك فأظهرُ التفسيرات هو الثالث لأنَّه المناسب للأصل، إذ انَّ البناءً عليه لا يستلزم استعمال لفظ الوراثة في غير المعنى الموضوع له اللفظ، فمعنى لا يحلُّ لكم أن ترثوا النساء هو انَّه لا يحلُّ لكم أخذهنَّ وراثةً كما تأخذون أموال الميِّت وراثةً أو قل لا يحلُّ لكم أن ترثوا نكاح زوجات الميِّت كما ترثوا أمواله، فهذا المعنى هو المستظهر عرفاً من الآية المباركة.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
1– النساء/19.
2– رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: “﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾ فإنه كان في الجاهلية في أول ما اسلموا من قبائل العرب إذا مات حميم الرجل وله امرأة القى الرجل ثوبه عليها فورث نكاحها بصداق حميمه الذي كان أصدقها فكان يرث نكاحها كما يرث ماله، فلما مات أبو قيس بن الا سلب (أبو قيس بن الأسلت ط) القى محصن بن أبي قيس ثوبه على امرأة أبيه وهي كبيثة (كبيشة ط) بنت معمر بن معبد فورث نكاحها ثم تركها لا يدخل به ولا ينفق عليها فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت يا رسول الله مات أبو قيس بن الا سلب فورث ابنه محصن نكاحي فلا يدخل علي ولا ينفق علي ولا يخلى سبيلي فالحق باهلي” – تفسير القمي -علي بن إبراهيم القمي- ج 1 ص 134