هل نزلت آية التطهير مستقلة؟
المسألة:
سماحة الشيخ -حفظه الله-
ما هو ردُّكم على دعوى من قال: إنَّ آية التطهير ليست آيةً كاملة بل هي جزء من آية، جاءت في سياق خطاب نساء النبي (ص)؛ والصحيح أنَّها نازلة في نساء النبيّ خاصة بصريح القرآن، ولا علاقة لها بعليٍّ وفاطمةَ وحَسنٍ وحُسين (ع)، وتغيّر الضمير هو لدخول النبيّ (ص).
فالواجب أن نفهم القرآن من خلال القرآن وسياق الكلام والقرائن المحيطة بجوّ الآية، أمّا أحاديث الكساء فباطلة موضوعة مكذوبة بأجمعها ولا قيمةَ لتواترها مع معارضتها القرآن. ثمَّ إنّ مَن يريدُ تعريفَ الناس بأهل بيته لا يختبئ في دار أم سلمة مستغلاً انشغالها بالصلاة ثمّ يُخفي نفسه وأهله تحت الكساء لئلا يراهم أحد ويقول: “اللهم هؤلاء أهل بيتي…” بل يخرج إلى الناس مُعرفًا بهم.
الجواب:
هل آية التطهير جزءٌ من آية ؟
إنَّ الدعوى بأنَّ فقرةً من القرآن الكريم آيةٌ مستقلَّة أو انَّها جزءٌ من آية لا يثبت بمجرَّد الملاحظة للترقيم المرسوم في المصحف الشريف، فإنَّ هذه الترقيمات خضعت للاجتهادات، ولم يثبت أكثرها عن الرسول الكريم (ص) فما بين الدفتين وإنْ كان -دون ريب- هو القرآن الكريم الذي نزل على قلب رسول الله (ص) دون زيادةٍ ولا نقيصة، لكنَّ تعداد آياته لم يتم التثبُّت منه، فقد يعدُّ بعضهم الفقرتين من سورة ٍآيةً واحدة، ويعدُّها غيرُه آيتين، بل قد يعدُّ بعضُهم في بعض الموارد الثلاث آيةً واحدة ويعدُّها غيرُه ثلاث آيات أو أربع .
ويُؤيِّد ذلك اختلاف أعداد الآيات عند أهل الأمصار فعددُ الآيات عند الكوفيِّين في عهد التابعين يختلفُ عمَّا هو العدد عند البصريين، والمصران يختلفان في العدد عمَّا هو عند المكيِّين، وهكذا فإنَّ عددَ الآيات عند المدنيين مختلفٌ عمَّا هو عليه العدد عند أهل الأمصار الثلاثة وعند الشاميين بل قد يختلفُ العدد عند أهل المِصر الواحد كما هو بين المدنيِّين أنفسهم.
يقول ابنُ كثير في تفسيره: “فأمَّا عددُ آيات القران العظيم فستة آلاف آية ثم اختُلف فيما زاد على ذلك على أقوال: فمنهم من لم يزد على ذلك، ومنهم مَن قال ومائتي آية وأربع آيات، وقيل وأربع عشرة آية، وقيل ومائتان وتسع عشرة آية، وقيل ومائتان وخمس وعشرون آية، أو ست وعشرون آية، وقيل ومائتان وست وثلاثون”(1).
فالاختلاف في العدد يتجاوز المائتين حيثُ انَّ المُقِل وقف على المائتين بعد الستة آلاف والمُكثِر أنهى الآيات إلى ستة آلاف مائتين وست وثلاثين، بل إنَّ المنقول عن ابن عباس انَّ الاختلاف في العدد يتجاور الستمائة، كما ذكر ذلك السيوطي في الإتقان قال: “وقد أخرج ابن الضريس من طريق عثمان بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس قال: جميع آي القرآن ستة آلاف وستمائة وست عشرة آية”(2) ومعنى ذلك انَّ الاختلاف لا يقف عند المائتين والستة والثلاثين بل يُجاوزه إلى ستمائة وست عشر آية.
فالعدد المتَّفق عليه ستة آلاف آية وما زاد على هذا العدد فهو مورد خلافٍ بينهم، يقول الداني -كما ذكر السيوطي في الإتقان- “أجمعوا على أنَّ عدد آيات القرآن ستة آلاف آية ثم اختلفوا فيما زاد على ذلك فمنهم من لم يزد ومنهم من قال ومائتا آية وأربع آيات وقيل وأربع عشرة وقيل وتسع عشرة وقيل وخمس وعشرون وقيل وست وثلاثون”(3).
ومعنى اجماعهم على الستة آلاف هو اجماعهم على العدد وإلا فقد يقع الخلاف بينهم فيعدُّ بعضُهم الآيتين آيةً واحدة ويعدُّها غيره آيتين ثم ينعكس العدد بينهما في موردٍ آخر فيكونان قد اتفقا على العدد الاجمالي واختلفا في التفصيل.
وكلُّ ذلك نشأ عن الاختلاف في الاجتهاد أو النقل، ولم يثبت ذلك عن النبيِّ الكريم (ص) كما ذكر ذلك الغزالي في المستصفى قال: “جوَّز القاضي رحمه الله الخلاف في عدد الآيات ومقاديرها، وأقرَّ بأنَّ ذلك منوطٌ باجتهاد القرَّاء وأنَّه لم يبين بياناُ شافياً قاطعاً للشك “(4) والاعتبار العقلائي يُؤيد ذلك، إذ لا يمكن أن يكون هذا الاختلاف في العدد صدر كلُّه عن النبي الكريم (ص).
وعليه فدعوى انَّ آية التطهير جزءٌ من آية وليست آية مستقلة لمجرَّد انَّها ضُبطت في المصحف المرسوم كذلك إنَّما هي دعوى جزافية لا يصحُّ التعويل عليها، فشأن الترقيمات هو شأنُ الوقوفات المرسومة في المصاحف الشريفة وهو شأن الاختلاف في الاملاء القرآني ، فكلُّ ذلك خضع للاختلاف في النقولات التي لا تعدو أخبار الآحاد التي لم تثبت بسندٍ معتبر، وخضع كذلك للاجتهادات ولهذه الاجتهادات المختلفة مناشئ متعدِّدة ليس هنا محل بيانها. هذا أولاً.
آية التطهير آيةٌ مستقلة:
وثانياً: إنَّ آية التطهير آيةٌ مستقلة كما دلَّت على ذلك الروايات المتواترة الواردة في سبب النزول، فعلاوةً على انَّه لم يرد ولا في روايةٍ واحدة ما يدلُّ على نزول آية التطهير ضمن الآيات الورادة في نساء النبي (ص) فإنَّ المقابل لذلك هو دلالة الكثير من الروايات الواردة من الفريقين على انَّها آيةٌ مستقلَّة نزلت على قلب رسول الله (ص) وحدها لم يسبقها ولم يلحقها شيء، ولتوثيق ذلك نذكر رواياتٍ خمس، ومن أراد المزيد فليرجع إلى كتب الحديث:
الأولى: ما أخرجه الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين بسنده عن عطاء بن يسار عن أم سلمة رضي الله عنها انَّها قالت: في بيتي نزلتْ هذه الآية: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتٍ﴾ قالت: فأرسل رسول الله (ص) إلى عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي قالت: أم سلمة يا رسول الله ما انا من أهل البيت قال: إنَّك أهلي خير وهؤلاء أهل بيتي اللهمَّ أهلي أحق”.
قال الحاكم النيسابوري: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه(5).
فهذه الرواية الصحيحة عبَّرت عن آية التطهير بالآية، وظاهرها انَّها نزلت مستقلَّة حيث أفادت امُّ سلمة: في بيتي نزلت هذه الآية: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتٍ﴾(6).
الثانية: ما أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده بسنده عن عطاء بن أبي رباح قال: “حدثني من سمع أم سلمة تذكر انَّ النبي (ص) كان في بيتها فاتته فاطمة ببرمة فيها خزيرة فدخلت لها عليه فقال لها: ادعى زوجك وابنيك قالت: فجاء عليٌّ والحسين والحسن فدخلوا عليه فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة وهو على منامةٍ له على دكانٍ تحته كساءٌ له خيبري قالت: وأنا أصلى في الحجرة فأنزل الله عزَّ وجل هذه الآية: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ قالت: فاخذ فضل الكساء فغشَّاهم به ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء ثم قال: اللهمَّ هؤلاء أهل بيتي وخاصَّتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا قالت: فأدخلتُ رأسي البيت فقلتُ: وأنا معكم يا رسول الله قال: إنَّك إلى خير، انَّك إلى خير”.
قال: عبد الملك وحدثني أبو ليلى عن أم سلمة مثل حديث عطاء سواء قال: عبد الملك وحدثني داود بن أبي عوف الجحاف عن حوشب عن أم سلمة بمثله”(7).
علَّق الشيخ شعيب الأرنؤوط على سند الحديث بقوله: حديث صحيح وله أسانيد ثلاثة، الأول ضعيف لإبهام الراوي عن أم سلمة، والثاني اسناده صحيح، والثالث ضعيف لضعف شهر بن حوشب(8).
قال الزيعلي في كتابه نصب الراية: وقد صحح الترمذي في كتابه حديث شهر بن حوشب عن أم سلمة ان النبي (ص) لفَّ على الحسن والحسين وعلي وفاطمة كساء وقال: “هؤلاء أهل بيتي” ثم قال: هذا حديث حسن صحيح(9).
وهذه الرواية الصحيحة ظاهرةٌ أيضاً في انَّ آية التطهير آيةٌ مستقلَّة وانَّها نزلت وحدها على قلب الرسول (ص) حيث ورد فيها: فأنزل الله عزَّ وجل هذه الآية: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾.
الثالثة: ما أخرجه الترمذي بسنده عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبيِّ (ص) قال: لمَّا نزلت هذه الآية على النبيِّ صلى الله عليه وسلم ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ في بيت أم سلمة فدعا فاطمة وحسناً وحسيناً فجلَّلهم بكساء وعلى خلف ظهره فجلَّله بكساء ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبي الله، قال أنت على مكانك وأنت على خير”.
وصف الشيخ الألباني الحديث بالصحيح(10).
وهذه الرواية الصحيحة ظاهرة أيضاً في انَّ آية التطهير آية تامَّة وانَّها نزلت مستقلة.
الرابعة: ما أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده بسنده عن شداد أبى عمار قال: دخلتُ على وائلة بن الأسقع وعنده قوم فذكروا علياً فلما قاموا قال لي: ألا أخبرك بما رأيتُ من رسول الله (ص) قلتُ: بلى قال: أتيتُ فاطمة أسألها عن علي قالت: توجَّه إلى رسول الله (ص) فجلستُ أنتظره حتى جاء رسول الله (ص) ومعه عليٌّ وحسن وحسين آخذٌ كلَّ واحدٍ منهما بيده حتى دخل فادنى علياً وفاطمة فأجلسهما بين يديه وأجلس حسناً وحسيناً كلَّ واحد منهما على فخذه ثم لفَّ عليهم ثوبه أو قال كساء ثم تلا هذه الآية ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحق”.
علَّق الشيخ شعيب الأرنؤوط سند الحديث بقوله: حديث صحيح(11).
وفي الدرِّ المنثور للسيوطي قال: وأخرج ابنُ أبي شيبة وأحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصحَّحه والبيهقي في سننه عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: جاء رسول الله (ص) إلى فاطمة ومعه حسن وحسين وعلي حتى دخل فأدنى علياً وفاطمة فأجلسهما بين يديه وأجلس حسناً وحسيناً كلَّ واحدٍ منهما على فخذه ثم لفَّ عليهم ثوبه وأنا مستدبرهم ثم تلا هذه الآية ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾”(12).
فهذه الرواية الصحيحة عبَّرت عن آية التطهير بالآية حيثُ ورد فيها: “ثم تلا هذه الآية ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾”.
الخامسة: ما أخرجه الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين بسنده إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عن أبيه قال: لمَّا نظر رسول الله (ص) إلى الرحمة هابطة قال: ادعوا لي ادعوا لي فقالت صفية: مَن يا رسول الله؟ قال: أهل بيتي علياً وفاطمة والحسن والحسين فجيئ بهم فألقى عليهم النبيُّ (ص) كساءه ثم رفع يديه ثم قال: اللهمَّ هؤلاء آلي فصلِّ على محمد وعلى آل محمد وانزل الله عزَّ وجل ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾”.
وعلَّق الحاكم النيسابوري على سند الرواية بقوله: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه (13)، وهي كذلك صريحة في ان الله تعالى أنزل إنما يريد الله مستقلة وليس في ضمن آيات أخرى.
والروايات في هذا المعنى من طرق العامَّة كثيرة، وكذلك هي كثيرة من طرقنا، ولولا خشية الإطالة لأفضنا في النقل إلا انَّ فيما نقلناه غنىً وكفاية لمَن ألقى السمع وهو شهيد.
فإذا ثبت انَّ آية التطهير آيةٌ مستقلَّة وليست جزءً من آية، وثبت انَّها نزلت مستقلَّة ولم تنزل ضمن آياتٍ أخرى فأيُّ سياقٍ يصحُّ التمسّك به؟! فآية التطهير لم تنزل ضمن آياتٍ أخرى حتى يُدَّعى انَّ مدلولها منصرفٌ إلى ما يقتضيه السياق، وورودها في المصحف المرسوم المتداول ضمن آيةٍ لا يدلُّ -كما بيَّنا- على انَّها نزلت كذلك، وعليه لا يصحُّ التمسُّك بالسياق لصرف الآية عن ظهورها بعد انْ ثبت انَّ الآية قد نزلت مستقلة وثبت انَّ لنزولها سبباً خاصاً.
وبتعبير آخر: إنَّ القرآن -كما هو معلوم وكما صرَّح القرآن نفسه- نزل منجَّماً على فتراتٍ مختلفة امتدَّت لأكثر من عقدين من الزمن ولم ينزل جملةً واحدة، فآياتٌ نزلت مجتمعة في دفعةٍ واحدة، وآيات نزلت ضمن سورةٍ تامة وآيات نزلت مفرَّقة كلُّ واحدةٍ على حدة، وضمُّ الآيات بعضها إلى بعض إنَّما وقع في مرحلةٍ متأخرة عن وقت النزول، فالسياق إنَّما يؤثِّر في الظهور لو كان النزول قد وقع للآيات دفعةً واحدة، وأما في الآيات المتفرقة في النزول فالسياق لا تأثير له على الظهور، إذ انَّها بعد انْ كانت مستقلة في النزول فإنَّ ما يلحقها من آيات وما يسبقها لا ربط له بها، إذ إنَّ ما لحقها وما سبقها ربما نزل بعدها أو قبلها بزمن قد يتجاوز السنة وأكثر، ولذلك تجد كثيراً آياتٍ نزلت في مكة أُلحقت بسورةٍ نزلت في المدينة وكذلك العكس، وتجد آياتٍ كثيرة نزلت في آواخر الهجرة ألحقت بآيات نزلت في أول الهجرة النبوية وكذلك العكس، فالترتيب لم يخضع للمتقدم نزولاً لا في السور ولا في الآيات، لذلك قد تجد الناسخ متقدماً في الترتيب على النزول والحال انَّ الناسخ متأخرٌ نزولاً على المنسوخ وقد تجد الناسخ بعد المنسوخ مباشرة في الترتيب والحال انَّه قد تخلل بين الآية الناسخة والآية المنسوخة زمن يطول ويقصر، فالسياق لا اعتبار له إلا فيما ينزل دفعة واحدة. وحيث انَّ آية التطهير نزلت مستقلَّة كما دلَّت على ذلك الروايات المتواترة لذلك لا يكون السياق الذي وُضعت فيه الآية بعد ترتيب المصحف مؤثِّراً فيما يظهر من مدلولها.
وعليه فلا مساغ لدعوى لزوم ملاحظة السياق الذي وقعت فيه آية التطهير لأنَّ آية التطهير لم تكن اساساً قد نزلت ضمن الآيات الواردة في نساء النبي (ص) ومن ادَّعى خلاف ذلك فإنَّ طريقه لإثبات دعواه هي الروايات الواردة عن النبي الكريم (ص) إذ لا طريق في مثل المقام غيره، ومن المعلوم -لمن له دراية بالحديث- انَّه ليس في الروايات ما يدلُّ على انَّ آية التطهير قد نزلت ضمن الآيات الواردة في النساء، وفي المقابل دلَّت الروايات المتكاثرة على انَّ آية التطهير قد نزلت مستقلَّة وقد تصدَّى النبيُّ الكريم (ص) إلى تطبيقها على أصحاب الكساء ونصَّت جملة وافرة منها على عدم شمولها لنساء النبي (ص).
والعجيب هو الإغفال لكلِّ تلك النصوص الصريحة والمعتبرة والتمسُّك بترتيب المصحف الذي يعلم الجميع على أيِّ كيفيةٍ قد تم وانَّه لم يُراعَ فيه ترتيب النزول ولا أسبابه، والأعجب من ذلك هو الادَّعاء بأنَّ الروايات المتواترة التي أفادت انَّ آية التطهير نزلت في أصحاب الكساء معارضة للقرآن اعتماداً على السياق الذي لم يثبت أساساً وقوع آية التطهير في إطاره بل ثبت ما هو خلاف ذلك، فتلك مصادرة مفضوحة لو أنصف هذا المدَّعي، فإنَّ على هذا المدَّعي انْ يثبت السياق أولاً ثم يتشبَّث به رغم وهنه، وأما ان يشغب بشيءٍ لم يتم الفراغ عن ثبوته فتلك مصادرة لا يُتاح له تمريرها إلا انْ يجد له مغفَّلاً حريصاً عن صرف كلِّ فضيلة عن أهل البيت (ع) .
ثمَّ إنَّ السياق لو سلَّمنا جدلاً -وهو غير مسلَّمٍ كما اتَّضح- انَّ آية التطهير نزلت في اطاره فإنَّه لن يُنتج في أحسن الأحوال إلا الظن بأنَّ المقصود منها هو نساء النبي(ص) وهذا الظنُّ يتبدَّد بتصدِّي النبيِّ (ص) لتفسير الآية بخلاف ما توهَّمه أو ظنَّه المتلقِّي للآية، فهو الذي نزل عليه القرآن وهو الأعرف بمقاصده وهو المكلَّف من قِبَلِ تعالى بتفسير آياته وبيان معانيها للأمة كما أفاد ذلك قوله تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾(14) وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِين﴾(15) وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾(16) فهو إنَّما بُعت لتعليم الناس مقاصد الكتاب المجيد، ولهذا لو تصدَّى النبيُّ (ص) لتفسير آيةٍ وكان تفسيره على خلاف ما فهمه بعض الصحابة بل جميعهم لكان عليهم أن يُذعنوا لتفسير النبي (ص) لأنَّه الأعرف بمقاصد القرآن الكريم، فلا يسوغ لأحدٍ أن يقول إنَّ هذا التفسير معارِضٌ للقرآن، نعم هو معارضٌ لفهمه وليس للقرآن، ولذلك أجمعت الأمة على انَّه لو ثبت عن النبي(ص) تفسيرٌ لآيةٍ فإنَّ المتعيَّن على الأمة هو الأخذ بذلك التفسير وإنْ كان على خلاف المظنون من معنى الآية، يقول تعالى: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾(17).
وهذا الذي أجمعت عليه الأمة ونصَّ عليه القرآن الكريم هو الموافق لطريقة العقلاء في فهم النصوص، فحين يقرأ أحدٌ نصَّاً لكاتبٍ فيجد انَّ كلامه محتملاً لمعنيين لكنَّه يظنُّ انَّ أحد المعنيين هو مراد الكاتب إلا انَّه يجد الكاتب قد تصدَّى بعد ذلك لبيان مراده من ذلك النص وأفاد انَّ مراده من ذلك النص هو المعنى الذي هو خلاف ما ظنَّه القارئ فإنَّ الذي عليه العقلاء في هذا الفرض هو اعتماد تفسير الكاتب لكلامه -خصوصاً إذا كان صادقاً- ولا يُصغى لأيِّ تفسيرٍ آخر، وذلك لأنَّ الكاتب هو الأعرف بمقاصد نفسه، وكذلك لو قال الكاتب انَّ الأعرف بمقاصدي ممَّا ذكرتُه في الكتاب هو فلان وقد بيَّنتُ له مقاصدي فإنَّ هذا الذي أحال عليه الكاتب لو شرح كلامه بعد ذلك بخلاف ما ظنَّه القارئ فإنَّ شرحه يكون معتمداً وإن كان على خلاف ما ظنَّه القارئ، فالنبيُّ (ص) لا ينطق عن الهوى والمحاباة إنْ هو إلا وحيٌّ يُوحى وقد صرَّح القرآن انَّه (ص) هو المعلم والمبين والشارح لمقاصد الكتاب المجيد، وعليه فحين يثبت عن النبي (ص) انه فسَّر آيةً في معنىً معيَّن فحينذاك يجب الأخذ بتفسيره، وحيثُ ثبت عن النبيِّ الكريم (ص) انَّه فسَّر آية التطهير وأفاد انَّ المقصودين منها هم عليٌّ وفاطمةُ والحسن والحسين (ع) فلا عذر بعد ذلك لمسلمٍ في التوقُّف وعدم الإذعان فضلاً عن التشغيب والتنطُّع ومحاولة صرف مفاد الآية عمَّا ثبت عن الرسول (ص).
يبقى البحث عن ثبوت هذا التفسير عن الرسول الكريم (ص)، وليس ثمة وسيلة لإثبات الصدور أقوى لدى علماء الإسلام قاطبة ولدى عموم العقلاء على اختلاف مشاربهم من الخبر المتواتر لذلك عدَّ المناطقة المتواترات من القضايا اليقينية.
والعجيب -وإنْ عشتَ أراكَ الدهرُ العجيب- انَّ صاحب الشبهة رغم اقراره بتواتر النصوص عن الرسول (ص) في انَّ المقصودين من أهل البيت في آية التطهير هم عليٌّ وفاطمة والحسن والحسين (ع) إلا انَّه زعم انَّ تلك النصوص المتواترة عن الرسول (ص) باطلة ومكذوبة ولا قيمة لتواترها، وذلك ينبغي أن يُعدَّ من الغرائب، إذ كيف يكون الخبر متواتراً ثم يُوصف بالكذب!!
نعم يظهر انَّ صاحب الشبهة قد فقَدَ صوابه لتمكُّن الخصومة المذهبيَّة من قلبه أو انَّه لا يفهم معنى التواتر ولا يُدرك قيمته العلميَّة، فلعلَّه لا يدري انَّ العقلاء والمناطقة والأصوليون متسالمون على أنَّ الكذب مستحيل وممتنع عقلاً في مورد التواتر، وذلك لأنَّ الخبر المتواتر هو الذي أخبر به جماعة بلغوا من الكثرة حدَّا يمتنعُ معه تواطؤهم على الكذب، فالكذب ممتنعٌ على الخبر المتواتر، فوصف التواتر بالكذب أشبه شيء بوصف النقيض بنقيضه.
وأما دعواه بأنَّ النصوص التي فسَّرت آية التطهير بأصحاب الكساء معارِضة للقرآن فقد اتَّضح انَّها معارضةٌ لفهمه الذي لا يُعبئ به بعد تصدِّي النبي الكريم (ص) لبيان مراد القرآن من أهل البيت في آية التطهير.
ثم إنَّ صاحب الشبهة عبَّر عن سوء أدبه حينما قال: ” ثمَّ إنّ من يريدُ تعريفَ الناس بأهل بيته لا يختبئ في دار أمِّ سلمة مستغلاً انشغالها بالصلاة ثمّ يُخفي نفسه وأهله تحت الكساء لئلا يراهم أحد ويقول: (اللهم هؤلاء أهل بيتي…) بل يخرج إلى الناس مُعرفًا بهم”!!!.
ألم يجد هذا الرجل غير كلمتي الاختباء والاستغلال يصف بهما النبيَّ الكريم (ص)!! ثم إنَّ وقوع هذا الحدث الذي ترتَّب عن أو عنه نزول آية التطهير في بيت أم سلمة لا ينحصر التعريف به والوقوف عليه بإيقاعه في المحفل العام، وذلك لأنَّه يكفي للتعرُّف عليه من قِبَل المسلمين أنْ يتصدَّى الصادقون كأمِّ سلمة وعليٍّ وفاطمة للإخبار به، وهل سيشكُّ مسلمٌ في وقوع هذا الحدث بعد إخبار مثل أمِّ سلمة وعليِّ عنه ؟!
ثم لماذا التلبيس على القارئ؟! ألم يرد في ذات النصوص انَّ أم سلمة قد انفتلت من صلاتها واستئذنت في الدخول معهم تحت الكساء فلم يُؤذن لها وبشَّرها النبيُّ (ص) انَّها على خير، فأين هو استغلال انشغالها بالصلاة؟! هل انقطعت عمَّا حولها وهي مشتغلة بالصلاة؟! ثم ألم تنقضي من صلاتها والنبيُّ (ص) مازال مجلِّلاً بكسائه علياً وفاطمة والحسن والحسين وقد رأته وهو كذلك وسمعتْه يُؤكِّد انَّ هؤلاء هم أهلُ بيته ويدعو لهم، ألم تكن هذه المضامين هي التي وردت عن أم سلمة؟!.
ثم إنَّ التعريف بأهل البيت (ع) من قِبَل النبيِّ الكريم (ص) وانَّهم عليٌّ وفاطمةُ والحسنُ والحسين (ع) هل انحصرت روايتُه بما ورد عن أمِّ سلمة؟!! لماذا الإيهام؟!! ألم يروِ ذات الحدَث بالأسانيد الصحيحة الصحابيُّ واثلةُ بن الأسقع وعبد الله بن عباس؟! ألم يروِ ذلك من نساء النبيِّ (ص) مثل عائشة كما في صحيح مسلم وعبد الله بن جعفر عن صفية كما في المستدرك على الصحيحين؟! ألم ينقل عددٌ من الصحابة كأنس بن مالك وأبي الحمراء وابن عباس وأبي برزة الأسلمي وأبي سعيد الخدري انَّهم رأوا النبي (ص) يقف عند كلِّ فجر على مدار ستة أشهر و ثمانية وتسعة أشهر أو سبعة عشر شهراً على باب بيت فاطمة ويقول كما في صحيح مسلم عن أنس: “الصلاة يا أهل البيت ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾”(18) ألم يكن بيت عليٍّ وفاطمة ملاصقاً للمسجد النبوي الذي يقصده المسلمون عند الفجر للصلاة؟! ألم تروِ عائشة كما في صحيح مسلم قالت عائشة: “خرج النبيُّ (ص) غداة وعليه مرطٌ مرحَّل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فادخله ثم جاء الحسين فدخل معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء عليُّ فادخله ثم قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾”(19).
التعريف بمن هم أهل البيت يوم المباهلة:
ألم يُعرِّف النبي(ص) بأهل بيته يوم المباهلة مع نصارى نجران، وكان ذلك بمرأى من عموم المهاجرين والأنصار ومن اتَّفق وجوده في المدينة آنذاك؟ حيثُ كان ذلك اليوم مشهوداً ويُعدُّ من أيام الإسلام، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص قال: “ولما نزلت هذه الآية ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ﴾ دعا رسول الله (ص) عليا وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: اللهم هؤلاء أهلي” وأخرج هذا الحديث الترمذي في سننه وصحَّحه(20) وأخرجه الحاكم وصحَّحه(21) وأخرجه أحمد(22) والبيهقي في السنن(23).
وأخرج الحاكم الحديث بسياقٍ آخر عن سعد بن أبي وقاص قال: “حين نزل عليه الوحي فاخذ علياً وابنيه وفاطمة فأدخلهم تحت ثوبه ثم قال: ربِّ إنَّ هؤلاء أهل بيتي..” قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة(24).
ففي هذه الرواية المتواترة بطرقها بيَّن الرسول (ص) لعموم المسلمين انَّ علياً وفاطمة والحسن والحسين (ع) هم أهل بيته.
التعريف بأهل البيت عند نزول براءة:
وقال ابن حجر في كتابه فتح الباري في شرح صيح البخاري: وأخرج أحمد بسندٍ حسن عن أنس أنَّ النبيَّ (ص) بعث ببراءة مع أبي بكر فلما بلغ ذا الحليفة قال لا يُبلِّغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي فبعث بها مع علي”(25) وحسَّن الحديث الترمذي في التفسير كما قال ابن حجر والعيني في عمدة القاري في شرح صحيح البخاري(26).
وأخرج النسائي في السنن الكبرى وفي الخصائص بسنده عن عليٍّ: أنَّ رسول الله (ص) بعث ببراءة إلى أهل مكة مع أبي بكر ثم أتبعه بعلي -بي- فقال له: خذ الكتاب فامضِ به إلى أهل مكة قال: فلحقتُه فأخذتُ الكتاب منه فانصرف أبو بكر وهو كئيب فقال: يا رسول الله أنزل فيَّ شئ؟قال: لا، إنِّي أمرتُ أن أبلِّغه أنا أو رجل من أهل بيتي”(27) والخصائص(28).
ففي هذه الرواية صرَّح رسول الله (ص) كما في الروايات السابقة انَّ علياً (ع) من أهل بيته.
“وانَّكِ أول أهل بيتي لحاقاً”:
وأخرج البخاري في صحيحه بسنده عن عائشة قالت: “أقبلت فاطمة تمشى كأنَّ مشيتها مشى النبي (ص) فقال النبيُّ (ص) مرحباً يا بنتي ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثم أسرَّ إليها حديثاً فبكت فقلت: لها لم تبكين ثم أسرَّ إليها حديثاً فضحكت فقلت: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن فسألتُها عمَّا قال فقالت: ما كنت لأُفشي سرَّ رسول الله (ص) حتى قُبض النبيُّ (ص) فسألتُها فقالت: أسرَّ إليَّ أنَّ جبريل كان يُعارضني القرآن كلَّ سنةٍ مرة وانَّه عارضني العام مرَّتين ولا أراه الا حضر أجلي وانَّكِ أول أهل بيتي لحاقاً بي فبكيت فقال: أما ترضين أنْ تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين فضحكت لذلك”(29).
وروى من طريق آخر: “.. ثم سارَّني فأخبرني انِّى أول أهل بيته اتبعه فضحكت..” (30) ففي هذه الرواية صرًّح النبيُّ (ص) انَّ فاطمة (ع) من أهل بيته وانَّها سيدة نساء أهل الجنة أو سيدة نساء المؤمنين.
الحسن(ع) يخبر أهل العراق ان الآية نزلت فيهم:
وأخرج الطبراني بسندٍ رجاله ثقات كما قال الهيثمي انَّ الإمام الحسن (ع): قام فخطب على المنبر فقال: يا أهل العراق اتَّقوا الله فينا فإنَّا أمراؤكم وضيفانكم ونحن أهل البيت الذين قال الله عز وجل: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ فما زال يومئذ يتكلَّم حتى ما ترى في المسجد إلا باكيا” مجمع الزوائد(31).
التعريف بأهل البيت يوم غدير خم:
هذا وقد تصدى النبيّ (ص) إلى تعريف المسلمين بأهل بيته يوم غدير خم بعد رجوعه من حجة الوداع في مشهدٍ لم يسبق له نظير منذ بداية المبعث النبوي الشريف:
أخرج النسائي في السنن الكبرى وفي الخصائص وكذلك غيره عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم قال: لما رجع رسول الله (ص) عن حجَّة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقُممن ثم قال: كأنِّي قد دُعيت فأجبت إنِّي قد تركتُ فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنَّهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض ثم قال: إنَّ الله مولاي وأنا وليُّ كلِّ مؤمن ثم أخذ بيد عليٍّ فقال: من كنتُّ وليُّه فهذا وليُّه اللهمَّ والِ مَن والاه وعادِ من عاداه، فقلت لزيد: سمعته من رسول الله (ص) قال: ما كان في الدوحات رجلٌ إلا رآه بعينه وسمع بأذنه”(32).
وأخرج هذا الحديث الحاكم في المستدرك على الصحيحين وقال: هذا حديثٌ صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بطوله(33).
وعلَّق الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة مختصرة بقوله: “صحيح، انظر طرقه وشواهده في الكتاب فهي كثيرة أوله عن ابي الطفيل عنه – زيد بن أرقم- لما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجَّة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقُممن ثم قال: كأنِّي قد دُعيت فأجبت إنِّي قد تركتُ فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض ثم قال: إنَّ الله مولاي وأنا وليُّ كلِّ مؤمن ثم أخذ بيد علي فقال من كنت وليه فهذا وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه”(34).
ففي هذا الحديث طبَّق النبي (ص) قوله: “وعترتي أهل بيتي” على عليٍّ (ع) بصفته المصداق الأبرز لهذا الوصف، فبعد أنْ أعلن في المسلمين انَّه ترك فيهم الثقلين كتاب الله وعترته أهل بيته وأخبر عن انَّهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض يوم القيامة بعدئذٍ أعلن بعد أنْ أخذ بيد عليٍّ ورفعها انَّ كل مَن كان يؤمن انَّ رسول الله (ص) وليُّه فليؤمن انَّ علياً وليُّه، وحين سُئل زيد بن أرقم هل سمع ذلك من النبي (ص) أجاب: “ما كان في الدوحات رجلٌ إلا رآه بعينه وسمع بأذنه” ثم إنَّ الحديث صِيغ بقوله (ص) “وعترتي أهل بيتي” واللفظان يُفسِّر بعضُهما بعضا، إذ انَّ لفظ العترة لا يصدق على الزوجات لا في اللغة ولا في العرف، فالواضح من الحديث انَّ مراده من أهل بيته هم عترته وليس زوجاته، فزوجاته من قبائل شتى، لذلك لا ينبغي لمنصفٍ انْ يدِّعي انَّ المراد من حديث الثقلين المتواتر هم زوجات النبيِّ (ص).
هذا وقد صدر عن الرسول (ص) حديث الثقلين قبل يوم الغدير أيضاً في يوم عرفة في حجَّة الوداع على مرأى ومسمع الحجاج كما أخرج الترمذي في سننه بسنده عن جابر بن عبد الله قال: “رأيتُ رسول الله (ص) في حجَّته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول: يا أيها الناس إنِّي تركتُ فيكم من ما إنْ أخذتم به لن تضلُّوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي”(35).
وقد حسَّن الترمذي سند الحديث وقال: “وفي الباب عن أبي ذر وأبى سعيد وزيد بن أرقم وحذيفة بن أسيد”(36) ووصف الشيخ الألباني سند الحديث بالصحيح لاحظ كتابه صحيح وضعيف الترمذي(37).
وكذلك ورد في الروايات من طرق الفريقين انَّ أهل البيت (ع) سيلقون بعد النبي (ص) قتلاً تشريداً وتطريداً وهذه الروايات تُعدُّ من دلائل النبوة ولا أعتقد انَّ أحداً يسعه أنَّ يتوهَّم ان المراد من أهل بيت النبي (ص) في مثل هذه الروايات هم زوجاته حيث لم يتَّفق لإحداهنَّ ما أخبر عنه النبيُّ (ص) إلى أنْ رحلن جميهن إلى ربِّهن، وكذلك ما ورد بالأسانيد الصحاح عن النبي (ص) انَّ المهدي رجل من أهل بيتي، وشيء من ذلك لا يصدق على زوجات النبيِّ (ص)
هذا غيضٌ من فيض ونزرٌ يسير ممَّا ورد في الروايات من طريق العامَّة من تصدِّي النبيِّ (ص) للتعريف بمَن هم أهل البيت (ع) فهل يسع منصف بعدها يخشى الله واليوم الآخر ان يدَّعي انحصار التعريف بأهل البيت بما ورد عن امِّ سلمة رغم كفايته.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
1– تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) -ابن كثير- ج 1 ص 8
2– الإتقان في علوم القرآن -جلال الدين السيوطي- ج 1 ص 182
3– الإتقان في علوم القرآن -جلال الدين السيوطي- ج 1 ص 182.
4– المستصفى -الغزالي- ص 83.
5– المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج 2 ص 416.
6– سورة الأحزاب الآية/33.
7– مسند أحمد -الإمام أحمد بن حنبل- ج 6 ص 292.
8– مسند أحمد -الإمام أحمد بن حنبل? ج 6 ص 292.
9– نصب الراية -الزيلعي- ج 1 ص 71.
10-راجع صحيح الترمذي الجزء3 صفحة 91،226، وكذلك سنن الترمذي الجزء 5 صفحة 351،663.
11-مسند أحمد -الإمام أحمد بن حنبل- ج 4 ص 107.
12-الدر المنثور في التفسير بالمأثور -جلال الدين السيوطي? ج 8 ص 159.
13– المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج 3 ص 148.
14– سورة البقرة الآية/151.
15-سورة آل عمران الآية/164.
16-سورة الجمعة الآية/2.
17-سورة الحشر الآية/7.
18– سنن الترمذي – الترمذي – ج 5 ص 31، المستدرك على الصحيحين قال صحيح على شرط مسلم ج3 ص 158 ومسند أحمد ج3 ص 259.
19– صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج 7 ص 130.
20– سنن الترمذي -الترمذي? ج 4 ص 293، ج5 ص 302.
21-المستدرك -الحاكم النيسابوري? ج 3 ص 150.
22-مسند أحمد -الإمام أحمد بن حنبل- ج 1 ص 185.
23-السنن الكبرى -أحمد بن الحسين البيهقي- ج 7 ص 63.
24-المستدرك -الحاكم النيسابوري? ج 3 ص 109.
25– فتح الباري -ابن حجر- ج 8 ص 241.
26– عمدة القاري -العيني- ج 18 ص 260.
27– السنن الكبرى -النسائي- ج 5 ص 129.
28– خصائص أمير المؤمنين (ع) -النسائي- ص 91.
29-صحيح البخاري -البخاري- ج 4 ص 183.
30-صحيح البخاري -البخاري- ج 4 ص 183.
31– مجمع الزوائد -الهيثمي- ج 9 ص 172.
32-السنن الكبرى -النسائي- ج 5 ص 45./ خصائص أمير المؤمنين (ع) -النسائي- ص 93.
33-المستدرك -الحاكم النيسابوري? ج 3 ص 109.
34-سلسلة الأحاديث الصحيحة -الشيخ الألباني- ج 4 ص 330.
35– سنن الترمذي -الترمذي- ج 5 ص 328.
36– سنن الترمذي -الترمذي- ج 5 ص 338.
37– صحيح وضعيف الترمذي ? الشيخ الألباني? ج 8 ص 286.