معنى: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ﴾؟
المسألة:
قال تعالى: ﴿لَقَد تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ﴾(1).
السؤال: كيف يتوبُ الله على النبيِّ (ص) وهو المعصومُ من الخطأ؟!
الجواب:
منشأُ الإشكال هو توهُّم الملازمةِ بين التوبة وإرتكابِ المعصية، وليس من دليلٍ على هذه الملازمة، فقد تنشأُ التوبة عن ارتكابِ العبد للمعصية، وقد تنشأ عن مخالفته للأولى كتركِه لمستحبٍ أو فعلِه لمكروه ولو لمرةٍ واحدة، وقد تنشأُ عن الشعور بالتقصير وأنَّ طاعاته وإنْ تعاظمت لا تفي بعظيم حقِّ الله عليه فيتوبُ إلى الله من هذا القصور أو التقصير، فالتوبة لا تختصُّ بمرتكبي الذنوب بل يحتاجُها حتى الأنبياء والأوصياء والملائكة كلٌّ بحسبه، ولذلك فكلُّ عبادِ الله تعالى على اختلاف مراتبِهم ومقاماتهم مخاطبونَ بالتوبة كما يُؤيِّدُ ذلك قولُه تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّه ِجَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ﴾(2).
وعليه فإذا لم تكن التوبة ملازمةً لإرتكاب الذنب فحينئذٍ لا يكونُ قولُه تعالى:﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ﴾ منافياً لما ثبت من عصمتِه (ص) بالدليل القطعي. هذا أولاً.
وثانياً: إنَّ الفعل تابَ في الآية المباركة أسندُ إلى الله تعالى، ولم يُسند إلى النبيِّ (ص) والمهاجرين والأنصار، فالتوبةُ تارة تُسندُ إلى اللهِ تعالى، وتارةً تُسند إلى العبد، فكما يصحُّ وصفُ العبد بالتائب والتوَّاب كذلك يصحُّ وصفُ اللهِ تعالى بالتائب والتوَّاب كما وصف نفسه بهذا الوصف في أكثر من آيةٍ، قال تعالى:﴿وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾(3) وقال تعالى:﴿وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾(4) وقال تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾(5)، فالتوَّاب وصفٌ يصحُّ اسناده لله تعالى، ويصحُّ اسنادُه للعبد كما في قولِه تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾(6).
والتوبةُ في الموردين بحسب المدلول اللُّغويِّ والإستعمال القرآني تعني الرجوع والعودة، فتوبةُ العبدِ إلى الله تعالى تعني رجوعه إلى الله لطلب إما المغفرة أو الرحمة أو المزيد من الفضل والقرب، وتوبةُ الله على العبد تعني الرجوع عليه إمَّا بالمغفرة أو بالمزيد من الرحمة والمزيد من الفضل والتوفيق، فوصفُ الله جلَّ وعلا بالتوَّاب يعنى أنَّه تعالى عوَّادٌ عليهم بالمغفرة أو بالمزبد من الرحمة والفضل.
ومن ذلك يتَّضح أنَّه تعالى حينما يُسند لنفسه التوبة على أحد لا يكون ذلك بالضرورة بمعنى إرادة العودة بالمغفرة على العبد، فقد يكون المراد من تاب الله على فلان هو أنَّه عاد عليه بالمغفرة من ذنبٍ ارتكبه، وقد يكون المرادُ من ذلك أنَّه عاد عليه بالمزيد من الرحمة والتوفيق أو عاد عليه بالمزيد من الإعلاء لدرجته، ويتحدَّد المراد من “تاب الله” من ملاحظة القرائن السياقيَّة والمكتنفة بالنصِّ أو من ملاحظةِ القرائن الخارجيَّة المستفادة من النصوص الأخرى.
وعليه فمعنى قوله تعالى:﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾ هو أنَّه تعالى عاد عليهم بالمزيد من الرحمة والفضل، وذلك بقرينة أنَّ الآية كانت بصدد مدح المهاجرين والأنصار على صبرهم في ساعة العُسرة يوم تبوك، قال تعالى:﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ فلم تكن توبةُ الله على المهاجرين والأنصار في هذه الآية بسبب ارتكابهم لخطيئةٍ بل لصبرِهم مع النبيِّ (ص) في ساعة العُسرة، وهذا يقتضي أنْ لا تكون التوبةُ بمعنى التجاوز عن خطيئتهم بل بمعنى الإنعطاف والعودة عليهم بالمزيدِ من الرحمة والفضل.
تماماً كما هو الحال في مثل قوله تعالى:﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ﴾(7) فإن معنى قوله:﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ هو أنَّه عاد عليكم بالرحمة والرأفة والتيسيير، فلم يفرض عليكم قيام الليل كلِّه أو أكثره لعلمه بأنَّكم لا تُطيقون ذلك، فالتوبة في الآية لم تكن بمعنى العودة عليهم بالمغفرة فهي لم تكن بصدد الحديث عن ذنبٍ ارتكبوه.
وهذا بخلاف معنى “تاب” في مثل قوله تعالى:﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾(8) وقوله تعالى:﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾(9) فإنَّ الواضح من سياق الآيتين أنَّ معنى قوله:﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ هو أنَّه تعالى عاد عليهم بالمغفرة وذلك الإخبار عن التوبة في الآيتين تعقب الإخبار عن ارتكابهم لخطيئة فناسب أن يكون معنى التوبة هو العودة على المخطئين بالمغفرة والتجاوز عن الخطيئة.
إذن فالتوبة لا تعني في كلِّ استعمالاتها العودة على العباد بالمغفرة من الذنوب بل قد تستعمل في إرادة هذا المعنى وقد يُراد منها العودة على العباد بمثل الرحمة والرأفة والفضل أو الإعلاء للدرجة ويتحدَّد ذلك من ملاحظة السياق والقرائن.
وحيثُ إنَّ قوله تعالى:﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾ كان بصدد المدح، ولم يكن بصدد الحديث عن خطيئة ارتُكبت فتاب الله على مرتكبِها لذلك فالمتعيَّن من معنى قوله:﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ﴾ هو أنَّه تعالى عاد عليهم بالرحمة والمزيد من الفضل.
ودعوى أن منشأ التوبة هو زيغ قلوبِ فريقٍ من المهاجرين والأنصار، لذلك فمعنى التوبة هو العودة عليهم بالمغفرة من هذه الخطيئة، فجوابُها أنَّ الزيغ الذي كاد أنْ يقع إنُما أسند لفريقٍ من المهاجرين والأنصار، فما معنى أن يتوب الله على النبيِّ (ص) وجميع المهاجرين والأنصار من خطيئة لم تقع إلا من فريقٍ منهم، فالصحيح أن معنى تاب الله على النبيِّ والمهاجرين والأنصار كان بمعنى العودة عليهم بالمزيد من الرحمة والفضل.
وثمة قرينةٌ من الخارج مضافاً للقرينة الداخليَّة تدلَّ على أنَّ المراد من التوبة على النبيِّ (ص) في الآية الكريمة هو العودة عليه بالمزيد من الفضل والإعلاء للدرجة، والقرينةُ هي الأدلة القطعيَّة على عصمة النبيِّ (ص) من ارتكاب مطلقِ الذنوب الخطيرِ منها والحقير.
فقد ثبت في علم الأصول -وكما هو مقتضى طريقة العقلاء وأهل المحاورة في فهم الخطابات- أنَّه إذا ورد خطابٌ وكان يحتمل معنيين وكان أحدهما منافياً لما قام الدليل القطعيُّ على امتناعه فإن المتعيَّن هو حمل الخطاب على المعنى الثاني غير المنافي للدليل القطعي، ومن هنا حمل المفسِّرون قولَه تعالى:﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾(10) على إرادة ذات الله جل وعلا، وذلك لأنَّ حمل الوجه على جارحة الوجه يستلزم التجسيم والتشبيه، وحيث أنَّ الله تعالى منزَّهٌ عن التجسيم والتشبيه لذلك يتعيَّن حمل الوجه في الآية على المعنى الثاني وهو إرادة ذات الله جلَّ وعلا، فإنَّ هذا المعنى هو المعنى غير المنافي للدليل القطعي المقتضي لامتناع التجسيم والتشبيه على الله جل وعلا.
فالمقام من هذا القبيل، فحيثُ ثبت بالدليل القطعي أنَّ النبيَّ الكريم (ص) معصومٌ عن ارتكاب الذنوب لذلك تعيَّن حمل قولِه تعالى:﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ﴾ على إرادة المعنى غيرِ المنافي لما يقتضيه الدليلُ القطعي.
والحمدُ لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
1– سورة التوبة آية رقم 117.
2– سورة النور آية رقم 31.
3– سورة البقرة آية رقم 160.
4– سورة التوبة آية رقم 104.
5– سورة الحجرات آية رقم 12.
6– سورة البقرة آية رقم 222.
7– سورة المزمل آية رقم 20.
8– سورة البقرة آية رقم 178.
9– سورة البقرة آية رقم 54.
10– سورة الرحمن آية رقم 27.