كيف تلقَّى المشركون نبأ المعراج؟
المسألة:
كيف تلقَّى مشركوا مكة والعرب نبأَ معراج الرسول (ص)؟
الجواب:
لقد ظهرتْ على يد الرسول (ص) في مكَّة الكثيرُ من الآيات والدلائل على صدقِه، ولم تكن قضيةُ الإسراءِ والمعراج آخرها لكنَّ مشركي مكَّة كانوا يقابلونَ ذلك بالإنكارِ والجحود، والخصوصيَّة التي ميَّزت قضيَّةَ الإسراء والمعراج هي أنَّ المشركين توهَّموا حين أخبرهم النبيُّ (ص) أنَّه قد أُسريَ به إلى المسجد الأقصى ومنه إلى السماء توهَّموا أنَّه قد أمكنتْهم الفرصةُ من إحراج النبيِّ (ص) ولذلك تفاعلوا مع خبره وأخذوا يسألونه عن أمورٍ ليس لغرض التثبُّت من صدقِه وإنَّما كانوا يأملون من ذلك أنْ يتعثَّر في جوابِه فيتَّخذوا من ذلك وسيلةً لتبرير جُحودهم وإنكارِهم لنبوَّتِه، فلمَّا وجدوا جوابَه مطابقًا لما يعرفونَه عن بيت المقدس لم يسعْهم تخطئته فيما أجابَ لكنَّهم استمهلوه حتى ترجعَ قافلةُ قريش ليسألوا عن صدقِ ما أخبرهم به من أحوالِها، فبادرهم النبيُّ (ص) إلى الصدعِ بدلائلَ أخرى على صدقِه فأخبرهم بوقتِ قدوم القافلةِ والجهةِ التي ستطلعُ عليهم منها وصفةِ مَن سيكونُ في مُقدَّم القافلة، لذلك تواثبت رجالُ قريش إلى الجهة التي أشار النبيُّ (ص) إلى أنَّ القافلة ستَخرجُ عليهم منها يتربَّصون الوقت الذي قال إنَّها ستصلُ فيه، ومكر بعضُهم فأرسل إلى القافلة يستمهلُها حتى لا يوافقَ وصولُها الوقتَ الذي قال النبيُّ (ص) إنَّها ستصلُ عنده لكنَّ اللهَ تعالى خيَّبَ رجاءَهم وأبطل مكرَهم فكان وصولُ القافلة تمامًا عند الوقت الذي حدَّه، ومِن الجهة التى أشار اليها، وعلى الهيئةِ التي بيَّنها فأُسقِط في أيديهم، فلم يعُد لهم من حجَّةٍ يعتذرونَ بها عن جُحودهم سوى اتِّهامه بالسحر تعبيرًا عن عجزِهم.
وهنا يحسنُ بنا نقلُ بعضِ ما ورد في هذا الشأن:
فمِن ذلك معتبرة أبان بن عثمان عن أبي عبد الله الإمام جعفر بن محمَّدٍ الصادق (عليهم السلام)، قال: لمَّا أُسريَ برسولِ الله (صلَّى الله عليه وآله) إلى بيتِ المقدس حمَلَه جبرئيلُ على البُراق، فأتيا بيت المقدس، وعرَض عليه محاريبَ الأنبياء، وصلَّى بها، وردَّه فمرَّ رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله) في رجوعه بعيرٍ لقريش، وإذا لهم ماءٌ في آنيةٍ، وقد أضلُّوا بعيرًا لهم، وكانوا يطلبونَه، فشرِبَ رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله) من ذلك الماء وأَهرَق باقيه. فلمَّا أصبح رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله) قال لقريش: إنَّ الله جلَّ جلالُه قد أَسرى بي إلى بيت المقدس وأراني آثارَ الأنبياء ومنازلَهم، وإنِّي مررتُ بعيرٍ لقريش في موضعِ كذا وكذا، وقد أضلُّوا بعيرًا لهم، فشربتُ من ماِئهم، وأهرقتُ باقي ذلك. فقال أبو جهل: قد أمكنتْكُم الفرصةُ منه، فسَلوه كم الأساطين فيها والقناديل؟
فقالوا: يا محمَّد، إنَّ هاهنا مَن قد دخَلَ بيت المقدس، فصفْ لنا كم أساطينه وقناديله ومحاريبه. فجاء جبرئيلُ (عليه السلام) فعلَّق صورةَ بيت المقدس، تجاهَ وجهه، فجعل يُخبرُهم بما يسألونَه عنه، فلمَّا أخبرَهم قالوا: حتَّى تجيءَ العيرُ ونسألُهم عمَّا قلتَ. فقال لهم رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله): تصديقُ ذلك أنَّ العير تطلُعُ عليكم مع طلوعِ الشمس، يقدمُها جملٌ أورق، فلما كان من الغد أقبلوا ينظرونَ إلى العقبة، ويقولونَ: هذه الشمس تطلعُ الساعة. فبينما هم كذلك إذ طلَعتْ عليهم العيرُ حين طلَعَ القُرصُ يقدمُها جملٌ أورَق، فسألوهم عمَّا قال رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله)، فقالوا: لقد كان هذا، ضلَّ جملٌ لنا في موضع كذا وكذا، ووضعنا ماءً فأصبحنا وقد أُهرِيقَ الماء. فلم يزدْهم ذلك إلا عُتوًّا”(1).
وفي رواية الخرائج والجرائح عن عليٍّ (عليه السلام): أنَّه لمَّا كان بعد ثلاث سنين من مبعثِه (صلَّى الله عليه وآله وسلم) أُسريَ به إلى بيت المقدس، وعُرجَ به منه إلى السماء ليلة المعراج، فلمَّا أصبح من ليلتِه حدَّث قريشًا بخبر معراجه، فقال جُهَّالِهم: ما أكذب هذا الحديث ؟ وقال أمثالُهم: يا أبا القاسم فبِم نعلمُ أنَّك صادقٌ في قولِك هذا ؟ قال: أخبركم وقال: مررتُ بعيركم في موضع كذا، وقد ضلَّ لهم بعيرٌ، فعرَّفتُهم مكانه إلى أنْ قال: وسألوا الذين كانوا مع العير فقالوا: مثلَ ما قال محمد في إخبارِه عنهم، فقالوا أيضًا: هذا من سحرِ محمَّدٍ”(2).
وفي حديثٍ آخر قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله: رأيتُ في السماء السادسة… ورأيتُ في السابعة …. ثم قال: جاوزنا متصاعدين إلى أعلى علِّيين، ووصف ذلك إلى أنْ قال: ثم كلَّمني ربِّي وكلمتُه، ورأيتُ الجنَّة والنار، ورأيتُ العرش وسدرة المُنتهى. قال: ثم رجعتُ إلى مكَّة، فلمَّا أصبحتُ حدثتُ فيه الناس، فأكذبني أبو جهلٍ و المشركون، وقال مُطعمُ بن عدي: أتزعمُ أنَّك سرتَ مسيرةَ شهرين في ساعة ؟ أشهدُ أنَّك كاذب، ثم قالت قريش: أخبرنا عمَّا رأيت. فقال: مررتُ بعير بنى فلان، وقد أضلُّوا بعيرًا لهم وهم في طلبِه…”(3).
وفي تفسير العيَّاشي: عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (ع): قال: لمَّا أخبرهم أنَّه أُسري به قال بعضُهم لبعضٍ: قد ظفرتم به فاسألوه عن أيلة” إلى أنْ قال: “وأصبحَ الناسُ فأشرفوا، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فما رُئيت مكَّة قطُّ أكثر مُشرفًا ولا مشرفة منها يومئذٍ لينظروا ما قالَ رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله) فأقبلت الإبلُ من ناحية الساحل، فكان يقولُ قائلٌ: الإبلُ، الشمسُ، الشمسُ، الإبلُ، قال: فطلعتا جميعًا”(4).
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
1– الأمالي – الشيخ الصّدوق: ص533-534.
2– الخرائج والجرائح – قطب الدّين الرّواندي: ج1 / ص141.
3– بحار الأنوار – العلّامة المجلسيّ: ج18 / ص376.
4– بحار الأنوار – العلّامة المجلسيّ: ج18 / ص384-385، تفسير العياشي – محمد بن مسعود العياشي: ج2 / ص379.