المسألة:
هل كان إسراءُ الرسولِ الأعظم (ص) إلى المسجد الأقصى وعروجه إلى السماء بروحه دون جسده أم كان ذلك بروحه وجسده؟ وما دليلكم على ما تختارونَه من القولين؟
الجواب:
لا ريبَ أنَّ إسراءَ النبيِّ (ص) والعروجَ به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ومنه إلى الملأ الأعلى إلى أنْ بلغ سدرةَ المُنتهى أو ما جاوزَ سدرةِ المُنتهى كان بروحه وجسدِه فإنَّ ذلك مضافًا إلى أنَّه المُتسالَم عليه بين الإماميَّة وجمهورِ العامَّة فهو مضافًا لذلك فإنَّه المُستفاد من الآيات والروايات المتواترة.
أما الآيات فقولُه تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾(1).
فهذه الآية شديدةُ الظهور في انَّ الإسراء كان بجسدِ النبيِّ الكريم (ص) في ظرفِ يقظتِه، فهو المستفاد أولًا من قوله تعالى: ﴿أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ فإنَّ المتفاهَم عرفًا حين يُقال قام عبدُ الله أو سافرتُ مع عبد الله أو سرت مع عبدي أو حملتُ عبدي معي أو ما أشبه ذلك فإنَّ المُتبادَر والمتفاهَم عرفًا من مثل هذه الصياغات هو إرادة ذات العبد المقصود بهيكله وإهابه، ولو ادَّعى المتكلِّمُ أنَّه قصد من عبدِه روحَه أو خياله أو قصد أنَّه سافر معه في عالم النوم لكان ذلك مُستهجنًا منه بعد أنْ لم يكن قد نصَب قرينةً على إرادة هذا المعنى المجازي والبعيد، ولذلك لا يختلفُ أحدٌ في أنَّ المراد من قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾(2) أنَّ المتكلِّم هو عيسى (ع) ذاتُه بجسده وروحه، وكذلك هو الشأن في قوله تعالى: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾(3) فإنَّ أحدًا لا يفهمُ أنَّ موسى وفتاه وجدا في عالم الرؤيا العبدَ الصالح الخضر بل وجداه عيانًا في عالم اليقظة. هذا أولًا
وثانيًا: فإنَّ المدلول العرفي – دون تردُّد- من قوله تعالى: ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا﴾ هو الإراءة البصرية، فهي المعنى الحقيقيِّ للرؤية، وأما الإراءة القلبيَّة في عالم المنام وكذلك في عالم اليقظة لا يُعبَّر عنها إراءةً إلا مجازًا وذلك ما يفتقرُ إلى قرينةٍ مفقودةٍ في المقام، ولذلك لو قال أحدُهم: “رأيتُ زيدًا” أو “أَريتُ زيدًا معالمَ المدينة” وكان مقصودُه أنَّه تخيَّل زيدًا أو رآه في المنام لعدَّ العرفُ ذلك من الكذب، وكذلك لو كان مقصودُه من إراءة زيدٍ معالمَ المدينه هو أنَّه وصفها له فإنَّ ذلك يُعدُّ من الكذب لأنَّه لم ينصب قرينةً على إرادة هذا المعنى المجازي، والرؤيةُ والإراءةُ تنصرفُ إلى الرؤية والإراءة البصريَّة. كما في قوله تعالى متحدِّثًا عن الآيات والمعجزات التى ظهرت على يد موسى (ع) لفرعون وقومه: ﴿وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(4) فإن الإراءة كانت بصريَّة لتكون حجَّةً عليهم.
وثالثًا: فإنَّ سياق الآية واضحٌ في أنَّها بصدد بيان امتنان الله تعالى على نبيِّه (ص) بمنحِه هذه الخصوصيَّة التي لم يحظ بها غيرُه وهي الإسراء به إلى المسجد الأقصى واراءتُه من آياته، ولو كان المقصودُ من ذلك هو الإسراءَ به في عالم الرؤيا والإراءة له في عالم المنام لما كان لذلك خصوصيَّةٍ ذات أهمية، فما أيسر أنْ يرى الإنسانُ في عالم الروؤيا أنَّه سافر إلى ما هو أبعد من المسجد الأقصى بل إلى السماء والشمس والقمر، وكذلك فإنَّ له أنْ يُحلِّق في عالم اليقظة بخياله إلى ما هو أبعد من ذلك، فلو كان المقصودُ من الإسراء هو الإراءة في عالم المنام أو الخيال لكان المشركون في مكَّة قد تلقوا هذه الآية بالإستهجان ولما تصدَّوا إلى تكذيب النبيِّ (ص) ومطالبته بالدلائل على تصديق دعواه، إذ إنَّ الإسراء في عالم الرؤية ليس له مزيةٌ تستوجبُ الاستيحاش فضلًا عن التكذيب والاتِّهام بالسحر، فرؤية ذلك قد يتَّفق لكلِّ أحد.
والموضعُ الثاني من القرآن الذي يُستدلُّ به على أنَّ المعراج كان جسمانيًا هو قولُه تعالى من سورة النجم: ﴿وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾(5).
ومفادُ الآيات هو التأكيد بالقَسَم أنَّ الرسول (ص) قد رأى جبرئيل على صورته التي خُلق عليها مرةً أخرى، وكان ظرفُ الرؤية في السماء عند سدرة المنتهى عند جنَّة المأوى ثم أكَّدت الآياتُ بما لا يدعُ مجالًا للشك على أنَّ الرؤية كانت بصريَّة وأنَّ بصره (ص) ما زاغ وما طغى، فما خدعه بصرُه فتوهَّم غيرَ المرئي وما طغى وتجاوز واقعَ ما رآه، ثم عادت الآياتُ لتؤكِّد أنَّه (ص) رآى من آيات ربِّه الكبرى التي لم يحظَ برؤيتها غيرُه من الأنبياء.
وأما الروايات التي يُمكن التمسُّكُ بها لإثبات جسمانيَّة الإسراء والمعراج فهي كثيرةٌ تفوق حدَّ التواتر الإجماليِّ، وهي في ذات الوقت واضحة وصريحة، ونظرًا لابتناء الجواب على الإيجاز لذلك سأصنِّفُ هذه الروايات إلى طوائف يتشكُّل من مجموعها التواترُ الإجمالي:
الطائفة الأولى: الروايات التي أفادت أنَّ النبيَّ (ص) لما أخبر المشركين في مكَّةَ أنَّه أُسريَ به إلى المسجد الأقصى وعُرجَ به إلى السماء في ليلةٍ واحدةٍ تنكَّروا لقوله أشدَّ الإنكار وواجهوه بالتكذيب ثم طلبوا منه أماراتٍ على صدق قولِه، ولا معنى لتكذيبهم لو كانوا قد فهموا مِن دعواه انَّه قصد وقوعَ الإسراءِ والمعراج في عالم الرؤيا، كما أنَّ دعوى الانكشاف والشهود الروحاني ليس شيئًا جديدًا فهو قد كان يدَّعي الوحي والاتصال بالغيب والملأ الأعلى منذُ مبعثِه الشريف، فأيُّ معنًى لشدَّة انكارهم ومطالبتِه بالدلائل على خصوص دعوى الإسراء والمعراج لولا أنَّهم فهموا من دعواه الإسراء والمعراج أنَّه قصد الإسراء والمعراج بجسدِه الشريف.
ثم إنَّ النبيَّ (ص) قد تصدَّى للبرهنةِ على صدق دعواه وذلك ظاهرٌ في إقراره لما فهمهوه من دعواه فهو قد تصدَّى للإخبار عن بعض ما كان قد صادَفه في الطريق ثم حين عاد مَن أخبر عن مصادفتِهم في الطريق فسألوهم عن تفاصيل أحوالهم التي وقعت لهم في الطريق وجدوها مطابقةً لما أخبرهم به وقد أخبرهم كذلك بوقت رجوعهم على نحو الدقة وعن جهةِ رجوعهم وعن المتقدِّم منهم والمتأخِّر فوجدوا كل ذلك مطابقًا للواقع، وكذلك طلبوا منه أن يصف لهم ما شاهده من تفاصيل دقيقة في بيت المقدس ليتثبَّتوا من مطابقة وصفِه لما كانوا يعرفونَه من أوصاف بيت المقدس، فحيث ثبت لهم صدقه في الإخبار عن الإسراء إلى بيت المقدس لإمكانية التثبُّت لهم من ذلك فإنَّه يلزمهم تصديقُه فيما أخبر به من الإسراء إلى السماء إذ لا طريق للتثبُّت من صدقه في ذلك إلا بما عاينوه من دقَّة صدقه فيما أخبر به من أحوال الطريق وفيما شرحه لهم من صفات بيت المقدس وما حوله.
هذه الطائفة من الرواياتِ مستفيضةٌ وقد نقلها الفريقان بألسنةٍ وتفاصيل متقاربة، وسنذكر في المقام روايةً واحدة رعايةً للإيجاز، هذه الرواية أوردها الشيخُ الصدوقُ في الأمالي بسندٍ معتبر عن أبيه، عن عليِّ بن ابراهيم، عن أبيه ابراهيم بن هاشم، عن ابن أبي عمير، عن أبان بن عثمان، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: لما أُسري برسول الله (صلَّى الله عليه وآله) إلى بيت المقدس حمله جبرئيلُ على البُراق فأتيا بيت المقدس وعرض عليه محاريب الأنبياء وصلَّى بها، وردَّه فمرَّ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) في رجوعه بعيرٍ لقريش، وإذا لهم ماءٌ في آنيةٍ، وقد أضلُّوا بعيرًا لهم، وكانوا يطلبونَه، فشربَ رسولُ الله (ص) من ذلك الماء وأَهرقَ باقيَه، فلمَّا أصبح رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله) قال لقريش: إنَّ الله جلَّ جلالُه قد أَسرى بي إلى بيتِ المقدس، وأراني آثارَ الأنبياء ومنازلَهم، وإنِّي مررتُ بعيرٍ لقريش في موضع كذا وكذا وقد أضلُّوا بعيرًا لهم، فشربتُ من مائهم وأهرقتُ باقي ذلك، فقال أبو جهل: قد أمكنتكم الفرصةُ منه، فاسألوه كم الأساطين فيها والقناديل؟ فقالوا: يا محمَّد إنَّ ههنا مَن قد دخل بيت المقدس فصف لنا كم أساطينه وقناديله ومحاريبه؟ فجاء جبرئيلُ (عليه السلام) فعلَّق صورةَ بيت المقدس تجاهَ وجهِه، فجعل يُخبرُهم بما يسألونَه عنه، فلمَّا أخبرهم قالوا: حتى يجيءَ العيرُ ونسألُهم عمَّا قلتَ، فقال لهم رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله) : تصديقُ ذلك أنَّ العير تطلعُ عليكم مع طلوع الشمس، يقدمُها جملٌ أورق، فلمَّا كان من الغد أقبلوا ينظرون إلى العقبة ويقولون: هذه الشمسُ تطلعُ الساعة، فبينا هم كذلك إذ طلعت عليهم العيرُ حين طلعَ القرصُ يقدمُها جملٌ أورق، فسألوهم عمَّا قال رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله) فقالوا: لقد كان هذا، ضلَّ جملٌ لنا في موضع كذا وكذا، ووضعنا ماءً فأصبحنا وقد أُهريق الماءُ، فلم يزدهم ذلك إلا عتوًّا “(6).
الطائفة الثانية: الروايات المستفيضة إن لم تكن متواترة والتي أفادت أن إسراء النبي (ص) ومعراجه كان بواسطة مركبٍ بعثه الله تعالى مع جبرئيل والملائكة وقد سمَّته الروايات البراق ووصفته بأنَّه من دواب الجنَّة وأنه بحجم دوابِّ الدنيا أكبر من الحمار وأصغر من البغل وأنَّ له قوائم كقوائم الجمل ووجه وعينان كما هي دوابُّ الدنيا وله جناحان من طرف فخذيه وأنَّ النبيَّ (ص) قد صعد عليه وسوَّى أحدُ الملائكة عليه ثيابَه فرفَّ به -البراق- إلى بيت المقدس ثم إلى السماوات واحدة تلوَ الأخرى، وكلُّ هذه الصفات والأحوال إنَّما تناسبُ العروج بالجسد، وحملُها على خلاف ذلك منافٍ لمقتضى الظهور العرفيِّ غيرِ المبرَّر.
فمن هذه الروايات ما ورد في تفسير عليِّ بن إبراهيم بسندٍ معتبرٍ عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: “جاء جبرئيلُ وميكائيلُ وإسرافيلُ بالبُراق إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فأخذ واحدٌ باللجام، وواحدٌ بالركاب، وسوَّى الآخرُ عليه ثيابَه، فتضعضعت البُراق… فرقَتْ به (صلَّى الله عليه وآله) ورفعته ارتفاعًا ليس بالكثير، ومعه جبرئيلُ يُريه الآيات من السماء والأرض إلى أنْ قال: فصعد جبرئيلُ وصعدتُ معه إلى السماء الدنيا إلى أنْ قال: ثم صعدنا إلى السماءِ السابعة…”(7).
ولعلَّ مما يؤكِّد على أنَّ البُراق كان مركوبًا ماديًّا – مضافًا إلى ما ورد في وصفه أنه من دواب الجنة – لعلَّ ممَّا يؤكِّد ذلك هو ما ورد في بعض الروايات من أنَّ البراق هو مركوبُ النبيِّ (ص) في المعاد يوم المحشر، والمعاد جسمانيٌّ.
الطائفة الثالثة: الرواياتُ التي تحدَّثت عن وضوء النبيِّ (ص) في السماء ليلةَ المعراج وعن صلاته بالأنبياء والملائكة في المسجدِ الأقصى وصلاته في السماء، فقد اشتمل عددٌ من عبائرها على ما هو ظاهرٌ في أنَّ النبيِّ (ص) كان حاضرًا هناك بجسدِه الشريف، فمِن ذلك ما ورد في معتبرة سدير الصيرفي ومحمد بن النعمان الأحول، وعمر بن أذينة عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّهم حضروه فقال (ع): يا عمر بن أُذينة إلى أنْ قال: (ع) -قال رسول الله (ص) -: “ثم قال لي ربِّي تعالى يا محمَّد مدَّ يدَك فيتلقَّاك ماءٌ يسيلُ من ساق العرش الأيمن، فنزل الماءُ فتلقَّيتُه باليمين فمن أجل ذلك صار أول الوضوء اليمنى، ثم قال يا محمَّد خذ ذلك الماء فاغسل به وجهك وعلَّمه غسل الوجه فإنَّك تريدُ أن تنظر إلى عظمتي وأنت طاهر ثم اغسل ذراعيك اليمين واليسار وعلَّمه ذلك فإنَّك تريد أن تتلقى بيديك كلامي وامسح بفضل ما في يديك من الماء رأسَك ورجليك إلى كعبيك وعلَّمه المسح برأسه ورجليه، وقال: انِّي أريد ان أمسح رأسَك وأُباركُ عليك فأما المسح على رجليك فانِّي أريد أن أوطئك موطئًا لم يطأه أحدٌ من قبلك ولا يطأُه أحدٌ غيرك فهذا علَّة الوضوء والأذان..”(8)؛ فإنَّ هذه الرواية شديدةُ الظهور في أنَّ النبيَّ (ص) كان حاضرًا في السماء بجسده الشريف ليلة المعراج.
ومن ذلك ما ورد في معتبرة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال (ع) : قال – رسولُ الله (ص) -: “فدخلتُ المسجد ومعي جبرئيل إلى جنبي، فوجدنا إبراهيم وموسى وعيسى فيمن شاء الله من أنبياء الله (عليهم السلام) قد جُمعوا إليَّ، وأُقيمت الصلاة، ولا أشكُّ إلا وجبرئيل سيتقدَّمُنا فلما استووا أخذ جبرئيل بعضدي فقدَّمني وأممتُهم، ولا فخر”(9) فإنَّ الأخذ بالعضد إنَّما يناسبُ الإسراء بالجسد، واشتملت الرواية ذاتها على أنَّ النبيَّ (ص) قُدِّم له بعد ذلك لبنًا فشربه.
وكذلك يُمكن استظهار حضورِه بجسده الشريف من معتبرة زرارة أو الفضيل عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لمَّا أُسري برسولِ الله (صلى الله عليه وآله) إلى السماء فبلغ البيتَ المعمور وحضرت الصلاة فأذَّن جبرئيل وأقام، فتقدَّم رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله)، وصفَّ الملائكة والنبيُّون خلفَ محمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله)”(10) فإنَّ التقدُّم والتأخُّر والخلف من أحوال الجسد كما هو ظاهر.
الطائفة الرابعة: الرواياتُ المتظافرة التي أفادت أنَّ جبرئيل بعد أنْ طاف بالنبيِّ (ص) السماواتِ السبع ليلةَ المعراج وبلَغ معه سدرةَ المُنتهى توقَّف بعدها أو عندها في موضعٍ قال إنَّه لا يسعُه تجاوزه وأنَّ على النبيِّ (ص) أنْ يتجاوزه وحدَه.
فمن هذه الروايات ما أورده الكلينيُّ في الكافي بسندٍ معتبر عن عليِّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حماد بن عثمان عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لمَّا عُرجَ برسول الله (صلَّى الله عليه وآله) انتهى به جبرئيل (عليه السلام) إلى مكانٍ فخلَّى عنه، فقال له: يا جبرئيلُ أتخلِّيني على هذه الحال؟ فقال: امضه، فوالله لقد وطئت مكانًا ما وطئه بشرٌ وما مشى فيه بشرٌ قبلك”(11).
فنلاحظ أنَّ الرواية عبَّرت عن ذلك الموضع بالمكان وعبَّرت عن الكَون فيه بالوطأ عليه والمشي فيه، وكلُّ ذلك إنَّما يُناسب الكَون بالجسد والمشي بالأقدام، وحملُ هذه الصياغات على خلاف ذلك لا يعدو التكلُّف والتعسُّف غير المبرَّر بعد أنْ لم يكن في حملِها على ظاهرها محذورٌ عقليٌّ إذ لا محذور عقلًا في العروج بالجسد لنضطر إلى تأويل هذه الروايات المُتظافِرة.
الطائفة الخامسة: الروايات الكثيرة التي تفوق حدَّ الاستفاضة والتي أفادت أنَّ النبيَّ (ص) دخل في ليلة المعراج الجنَّة وعايَن أشجارها وأنهارها وقصورها وجلس على بعض فرشها، ولا يسعنا حملُ هذه الروايات على خلاف ما يظهرُ منها من الدخول إليها بجسدِه الشريف بعد أنْ لم يكن موجبٌ لتأويلها وحملِها على خلافِ ظاهرها.
فمن تلك الروايات ما رواه عليُّ بن إبراهيم في تفسيره بسندٍ معتبر قال: حدَّثني أبي ابراهيم بن هاشم عن حمَّاد عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رسول الله (ص): “لما أُسرى بي إلى السماء دخلتُ الجنة فرأيتُ قصرًا من ياقوتةٍ حمراء يُرى داخلها من خارجها، وخارجها من داخلها من ضيائها، وفيها بيتان من دُرٍّ وزبرجد، فقلتُ: يا جبرئيل لمَن هذا القصر فقال: هذا لمَن أطابَ الكلامَ، وأدامَ الصيامَ، وأطعمَ الطعام، وتهجَّدَ بالليل والناسُ نيام..”(12).
ومنها ما رواه الشيخُ الصدوق بسندٍ مُعتبرٍ في العيون والتوحيد والأمالي قال: حدَّثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنه قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه إبراهيم بن هاشم عن عبد السلام بن صالح الهروي عن الإمام الرضا (ع): “…. قال: قلتُ له: يابن رسول الله فأخبرني عن الجنَّة والنار أهما اليوم مخلوقتان؟ فقال: نعم وإنَّ رسول الله (ص) قد دخل الجنة ورأى النار لما عُرج به إلى السماء قال: فقلتُ له: إنَّ قومًا يقولون: إنَّهما اليوم مقدَّرتان غير مخلوقتين فقال (ع): لا هم منا ولا نحن منهم، مَن أنكر خلقَ الجنَّة والنار كذَّب النبيَّ (ص) وكذَّبنا، وليس من ولايتنا على شيء.. قال (ع): وقال النبيُّ (ص): لما عُرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرائيل (ع) فأدخلني الجنة فناولني من رطبها فأكلتُه..” (13). فهذه الرواية كما تُلاحظون صريحةٌ في أنَّ العروج كان بالجسد.
الطائفة السادسة: الرواياتُ المستفيضة التي أفادت أنَّ النبيَّ (ص) أكَل من ثمار الجنة في ليلة المعراج ومنها تكوَّنت النطفةُ التي تخلَّقت منها السيدةُ فاطمة (عليها السلام) ولا يمكن حمل هذه الرويات المستفيضة إلا على أنَّ العروج كان جسمانيًا، فإنَّ الأكل والنطفة من شئون الجسد، فمن هذه الروايات ما ورد في تفسير عليِّ بن إبراهيم بسندٍ معتبر عن أبيه، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن أبي عبيدة، عن الصادق (عليه السلام) قال: كان رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) يُكثر تقبيل فاطمة (عليها السلام) فأنكرت ذلك عائشة، فقال: رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) : يا عائشةُ إنِّي لمَّا أُسري بي إلى السماء دخلتُ الجنَّة فأدناني جبرئيل من شجرة طوبى، وناولني من ثمارها فأكلتُه. فحوَّل اللهُ ذلك ماءً في ظهري، فلمَّا هبطتُ إلى الأرض واقعتُ خديجة فحملت بفاطمة، فما قبلتُها قطُّ إلا وجدتُ رائحةَ شجرةِ طوبى منها “(14).
ومنها ما ورد في معتبرة عبد السلام بن صالح الهروي عن الإمام الرضا قال (ع): وقال النبيُّ (ص) : لما عُرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرائيل (ع) فأدخلني الجنة فناولني من رطبها فأكلتُه، فتحوَّل ذلك نطفةً في صلبي فلما هبطتُ الأرضَ واقعتُ خديجة فحملت بفاطمة، ففاطمة حوراء إنسيَّة فكلَّما اشتقتُ إلى رائحة الجنَّة شممتُ رائحة ابنتي فاطمة (ع)” (15).
الطائفة السابعة: الروايات التي تصدَّت لبيان علَّة الإسراء والمعراج وأفادت أنَّ اللهَ تعالى ليس في مكانٍ ولا يجري عليه زمان ولكنَّه تعالى أراد أن يُري نبيَّه (ص) عجائبَ عظمته ليُخبر بها بعد هبوطه، وأراد أنْ يتشرَّف به ملائكتُه وسكانُ سماواته ويُكرمُهم بمشاهدته، وهذه الروايات شديدةُ الوضوح في أنَّ العروج كان جسمانيًّا، فلو كان العروجُ بمعنى الكشف والشهود الروحاني لما كان ثمة معنىً للتصدِّي لنفي شبهة المكان والزمان عن الله عزَّ وجل، ولم يكن معنىً للقول بأنَّ اللهَ أراد أن يُكرم الملائكة بمشاهدتِه وأنَّه تعالى أراد أنْ يُري النبيَّ عجائبَ عظمته حتى إذا ما هبط إلى الأرض أخبرَ عمَّا كان قد شاهده، فإنَّ كلَّ ذلك لا يُناسبُ إلا العروج الجسماني.
ونذكر مثالًا لهذه الطائفة من الروايات وهي معتبرة يونس بن عبد الرحمن قال: قلتُ لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام): لأيِّ علةٍ عرجَ اللهُ بنبيِّه إلى السماء ومنها إلى سدرة المنتهى، ومنها إلى حُجب النور وخاطبَه وناجاه هناك، والله لا يُوصفُ بمكان؟ فقال (عليه السلام): “إنَّ الله لا يُوصفُ بمكانٍ، ولا يجري عليه زمانٌ، ولكنَّه عزَّ وجلَّ أراد أنْ يُشرِّف به ملائكته وسكان سماواتِه، ويُكرمُهم بمشاهدتِه. ويريه من عجائب عظمتِه ما يُخبرُ به بعد هبوطه، وليس ذلك على ما يقوله المشبِّهون، سبحانَ اللهِ وتعالى عمَّا يصفون”(16).
فمفاد الرواية هو أنَّ إحدى غاياتِ العروج بالنبيِّ (ص) إلى السماء هي تشريفُ الملائكة بمحضره الشريف وإكرامِهم بمشاهدته، وذلك ظاهرٌ في أنَّ العروج كان بالجسد، كما أنَّ من غاياتِ العروج بحسب الرواية هي إراءة النبيِّ (ص) عجائبَ عظمة اللهِ تعالى ليُخبر بما يشاهدُه بعد هبوطه، فالتصدي لتبرير العروج رغم أنَّ الله تعالى ليس في في مكانٍ فالتبرير لذلك بمشاهدة عجائبِ عظمة الله ظاهرٌ جدًا في العروج بالجسد وإلا كان المناسبُ لنفي الشبهة هو القول إنَّ العروج لم يكن أكثر من إراءة روحيَّة لملكوتِ السماء والملأ الأعلى.
ومُحصَّل القول إنَّ ملاحظة هذه الطوائف من الروايات والتي يتشكَّلُ من مجموعها تواترٌ اجمالي يُنتجُ القطع بأنَّ العروج كان بالروح والجسد وليس كما توهَّمه البعض، نعم لا ريبَ أنَّ بعض ما وقع للنبيِّ (ص) من أحوالٍ ومشاهداتٍ في المعراج كانت روحيَّةً خالصةً وبعضُها كانت مشاهدات لتمثلاتٍ برزخيَّة لكنَّ ذلك لا ينفي حضوره للملأ الأعلى بجسدِه الشريف، ولذلك فالدلائلُ على العروج الجسدي غيرُ قابلةٍ للتأويل.
والحمدُ لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
1– الإسراء/1.
2– مريم/30.
3– الكهف/65.
4– الزخرف/48.
5– النجم/13-18.
6– الأمالي – الشّيخ الصّدوق: ص533-534.
7– تفسير القمّي – علي بن إبراهيم القمّي: ج2 / ص3-9.
8– علل الشّرائع – الشّيخ الصّدوق: ج2 / ص314-315.
9– بحار الأنوار – العلَّامة المجلسي: ج18 / 319-320.
10– الكافي – الشّيخ الكليني: ج3 / ص302.
11– الكافي – الشّيخ الكليني: ج1 / ص442.
12– تفسير القمّي – علي بن إبراهيم القمّي: ج1 / ص21.
13– الأمالي – الشّيخ الصّدوق: ص546.
14– تفسير القمّي – علي بن إبراهيم القمّي: ج1 / ص365.
15– الأمالي – الشّيخ الصّدوق: ص546.
16– علل الشّرائع – الشّيخ الصّدوق: ج2 / ص132.
